أقامت الحكومة الفرنسية احتفالاً كبيراً في باريس؛ استمر ثلاثة أيام متتالية، من 11 – 13 تشرين الثاني 2018؛ وحضرته وفود دولية، ورؤساء دول عديدة؛ وذلك بمناسبة المئوية الأولى لنهاية الحرب العالمية الأولى، وأقامت باريس مع هذا الاحتفال الكبير، والذي حضره حوالي 98 وفدا دوليا، و72 رئيسا، أقامت منتدى للسلام، يبحث في موضوع السلام العالمي، وفي كيفية المحافظة عليه، وذلك من خلال ورش عمل، يشارك فيها كبار القادة والمتخصصين، وتُقَدّم من خلالها رؤىً وحلولٌ، مبنية على استخلاص الدروس والعبر من مآسي الماضي، وخاصة الحروب العالمية، وما جرته على البشرية من ويلات وشرور...
فهل حقيقة أن فرنسا استذكرت مآسي العالم بسبب الحروب، وأرادت أن تستخلص العبر، وتضع برامج مستقبلية للسلم العالمي، أم إنها تريد أن تحقق غايات وأهدافاً سياسيةً تجابه بها الخصوم، وتحقق من خلالها مكاسب خاصة؛ تخدم سياسات استعمارية، وتكتوي بنارها الشعوب على الدوام؛ فتكون بذلك حرباً على السلام والسلم الذي تدعيه وتدعو له؟!
وللإجابة عن هذا السؤال نستعرض الأمور التالية:
1- إن فرنسا كانت وما زالت على رأس الحروب العالمية والإقليمية؛ سواء أكانت العالمية الأولى أم الثانية، أم الحروب التي سبقتها في العالم الإسلامي؛ ومنها الحروب الصليبية المتتابعة، وحروب نابليون على بلاد الإسلام، والحروب الاستعمارية؛ وأشهرها حروبها في الجزائر، والمآسي التي جرتها على العالم من خلالها، ففرنسا لم تنته حروبها وشرورها على العالم، بل إنها ما زالت تشارك في حروب هنا وهناك؛ في العراق والشام ومناطق أفريقيا، وأفغانستان، فهي عضوٌ فاعل في حلف الأطلسي العدواني الاستعماري، وهي دولة استعمارية شريرة، لم تُغير من سياستها شيئا، حتى وهي تعقد هذا المؤتمر الراعي للسلم والسلام الدولي.
2- إن طبيعة الأفكار التي دعا لها هذا المؤتمر، لا تتحقق إطلاقا في ظل هذا النظام الدولي المقيت؛ القائم على حب الهيمنة والسيطرة على الغير، وعلى دعم الدول الظالمة المستعمرة ككيان يهود، وعلى الخضوع لسياسات العنجهية الأمريكية؛ الهادفة للتفرد الدولي والهيمنة على دول العالم وشعوبه. فهناك شقة واسعة بين الدعوة للأمن والسلم الدولي، والمحافظة على البيئة، والتنمية العالمية، والتكنولوجيا الجديدة والرقمية، والاقتصاد الشامل... هناك شقة واسعة بين هذه الأفكار، وبين أهداف النظام الدولي؛ القائم اليوم على الابتزاز والكذب، وتسخير الغير في خدمة الذات. فهذه أهداف سامية؛ تحتاج إلى نظام دولي جديد، وإلى هدم النظام الدولي القائم، بكافة مؤسساته؛ لأنها عبارة عن أدوات استعمارية بيد أمريكا على وجه الخصوص، تبتزها كيفما تشاء ومتى تشاء.
3- لقد ذكر القائمون على المؤتمر ما يعانيه العالم من إفرازات شريرة؛ ناتجة عن السياسات القائمة منها: أزمة النظام الدولي. ومن مظاهرها (تراجع التعاون الدولي، وتزايد المخاطر الجيوسياسية، وصعود الاتجاهات الشعوبية، وتراجع الفضاءات الديمقراطية، واستفحال غياب المساواة، وانتهاك حقوق الإنسان، وارتفاع الميزانيات الدفاعية، وتراجع المنظمات متعددة الأطراف، وتراجع القواعد الناظمة للتكنولوجيا الجديدة، وتراجع التعبئة العالمية لمحاربة التصحر والحفاظ على البيئة...)، وبعد أن ذكروا هذه المشاكل الدولية العالمية كما يسمونها ذكروا لها حلولاً منها: رص صفوف الدول والمجتمعات؛ التي ما زالت تؤمن بالعمل الجماعي والتعددية القطبية، وإيجاد القواعد العالمية لإدارة ثروات البشرية والخير العام.
وهذه الأمور المذكورة والحلول الموضوعة لها؛ هي عبارة عن كلام نظري، ليس له واقع، ولا يمكن أن يوجد في عالم قائم على التناقضات والأفكار المسمومة، عدا عن أن الحلول ليس لها ارتباط أصلا بالمشاكل المطروحة العديدة. فأين هو العمل الجماعي الدولي؟ وأين هي التعددية القطبية؟ بل أين هي القواعد العادلة لإدارة ثروات البشرية والخير العام؟ فكل هذه الأمور المطروحة هي عبارة عن كلام ليس له أيُّ واقع، ولا يتحقق أبدا في ظل هذه النظم السقيمة وهذا النظام الدولي المقيت الشرير.
وفي الختام نقول: إن الدعوة للسلم العالمي هي بحد ذاتها فكرة استعمارية؛ مثلها مثل ما سبقها من مؤسسات وهيئات، ادعت السلم العالمي؛ مثل عصبة الأمم التي برزت من نتاج الحرب العالمية الأولى 1919 لوضع حد للحروب، ولم تؤثر شيئا في انزلاق العالم نحو حرب عالمية ثانية؛ بل إنها ساعدت ودفعت في اتجاه هذه الحرب؛ بسبب تسخير بعض الدول لهذه الهيئة الدولية. وكهيئة الأمم المتحدة ومجلس الأمن التابع لها أيضا؛ والتي أسست لنشر السلم العالمي مباشرة بعد الحرب العالمية الثانية 1945، واكتواء البشرية بنارها، وصارت فيما بعد أكبر المؤسسات التي تنشر الظلم، وهضم الحقوق وتدفع باتجاه الحروب والشرور. ومثل فكرة السلام الكاذب التي يدعو لها كيان يهود ومؤسساته وأحزابه، وفي الوقت نفسه يغتصبون أرضا وشعبا باسم هذا السلام المخادع! فمن يريد السلام والسلم الدولي ويدعو له يطبقه على نفسه أولا؛ فيسحب جيوشه من العالم، ولا يشارك في حروب تنتهك إنسانية البشر، وتعتدي على حقوقهم، ولا يدعم مجرمين مثل كيان يهود في استعمارهم لشعب آخر... وصدق الشاعر فيما قال:
لا تنه عن خلق وتأتي مثله *** عارٌ عليه إذا فعلت عظيم
إن فكرة السلام هذه المطروحة اليوم في مؤتمر باريس؛ هي سياسة فرنسية (أوروبية)؛ تستخدمها في وجه أمريكا التي تشدد وطأتها اليوم على أوروبا وعلى وحدتها، وتقود العالم أجمع في وجه أي تغيير يؤثر على هيمنتها الدولية. فأرادت فرنسا أن تُسمع صوتها بطريقة غير جريئة لتقول لأمريكا: إنها دولة تبتزُّ العالم، وتحارب كل من يقف في وجهها، وتسخر العالم ومؤسساته في خدمة سياساتها. فأرادت أن يكون هذا الصوت بطريقة التفافية غير صريحة ولا جريئة؛ في وجه أمريكا.
ولكن هذه الدعوات وغيرها؛ لن تستطيع أن تغير من الواقع شيئا، ولن تؤثر على أمريكا وسياساتها، ولن تستطيع أن تؤثر حتى داخل الاتحاد الأوروبي نفسه؛ لأنها لم تطبق الأفكار على نفسها أولا، ولم تتبن مثل هذه الأفكار بقوة؛ أي عن طريق تكتلات دولية فاعلة تستطيع أن تقف في وجه أمريكا وسياساتها بصوت عالٍ مسموع وجريء.
إن موضوع السلم والسلام العالمي يحتاج إلى دولة مبدئية قوية؛ تطبقه بصدق وإخلاص أولا على نفسها، وتتحدى به العالم أجمع، وعلى رأسه أمريكا. وهذا لا يوجد إلا في نظام واحد هو نظام الإسلام، نظام العدل والرحمة. وسوف يبقى العالم في حروبٍ وشرور، وانعدام السلم الإقليمي والدولي، حتى يأذن الله عز وجل بولادة نظام العدل والرحمة؛ في ظل دولة الإسلام، دولة الخلافة الراشدة الثانية على منهاج النبوة. نسأله تعالى أن يكرم أمة الإسلام، والبشرية جميعا بعدل الإسلام وطمأنينة الحياة في ظل الإسلام...
رأيك في الموضوع