أحياناً لا بدّ للعامل في حقل التغيير السياسي من أن يرتفع عن تفاصيل الأحداث اليومية قليلاً، وينظر إلى المشهد الكلي للأحداث بإطاره العام، حتى يستطيع فهم كل حدث مستجد، ويتخذ تجاهه الموقف الصحيح، بناءً على نظرته الشاملة للأحداث.
- وحتى نقرأ ثورة الشام القراءة الصحيحة، ونتخذ الموقف الصحيح تجاه أحداثها المختلفة، فيجب علينا الارتفاع قليلاً عن تفاصيلها اليومية، والنظر إليها من عَلٍ، في إطار الوظيفة التي أوكل الله إلى المسلمين القيام بها في هذه الحياة الدنيا، وسيحاسبهم عليها يوم القيامة.
- فلقد خلق الله ما في هذا الكون من أجرام ونجوم وكواكب ومخلوقات، ووضع لها أنظمتها وقوانينها، وأجبرها على السير عليها، ما عدا الإنسان فقد ميزه الله، وبعث له عبر أنبيائه ورسله بالقوانين التي تصلح له وتصلحه، وأمره بالسير عليها، وربط انصياعه لهذه القوانين بالفوز والفلاح في الدنيا والآخرة، وربط حيده عنها بالشقاء والخسران في الدارين.
- وكان خاتم الأنبياء محمداً e. فقد ختمت رسالته الرسالات، ونسخت شريعته جميع الشرائع السابقة. والبشر جميعهم اليوم ملزمون باتباع دينه، والانتظام بما جاء به من أنظمة وقوانين، حتى لا يبقوا نشازاً في هذا الكون، ويسيروا بانسجام مع بقية خلق الله، خاضعين جميعاً في سيرهم لأحكام الله.
- ورغم أن الله تعالى منع إكراه الناس على اعتناق عقيدة الإسلام، إلا أنه أمر المسلمين أن يَحكُموا غيرهم من أصحاب الديانات الأخرى بأحكام الإسلام. فالواجب الشرعي على المسلمين في كل زمان هو أن يُخضعوا جميع من عداهم من البشر إلى أحكام الشريعة الربانية، بعد خضوعهم هم لها أصلاً، دون أن يكرهوهم على اعتناق دين الإسلام.
- ولأن تحاكم المسلمين إلى الشريعة بدايةً، وحُكم جميع الناس بها في مرحلة تالية، لا يمكن أن يتِمّا إلا بدولة تتبنى العقيدة الإسلامية أساساً لها، وتطبق أحكام الإسلام على من يخضع لسلطانها، وتعمل على حكم العالم بالإسلام عبر الدعوة والجهاد، وهي عين دولة الخلافة، فالواجب الأول على المسلمين في حال غيابها هو العمل الجادّ لإيجاد نواة هذه الدولة في أول بلد تتوفر فيه شروط إقامتها، ثم العمل على توسيع رقعتها لتضم العالم الإسلامي بدايةً، ولتشمل في النهاية جميع أرجاء المعمورة.
- ولأن أهل الثورة السورية قد انكشفت على أيديهم وفي بلادهم حقيقة الصراع الدائر بين أبناء الأمة من جهة وبين مستعمريها من دول الغرب وأذنابهم حكام المسلمين من جهة أخرى، بعد أن رفع الثائرون راية الإسلام، وطالبوا بتحكيم شريعته، وقدّموا في هذا السبيل ما قدّموا من تضحيات، فهم الأقرب إذا تابعوا المشوار لأن تقام الخلافة على أيديهم، وهم الأَوْلى بأن يحظوا بشرف إقامة نواتها في بلادهم.
- والشروط الثلاثة الواجب تحقيقها في أي بلد حتى يصبح جاهزاً ليكون نواة للدولة الإسلامية، بعد امتلاكه الحدّ الأدنى من المقومات المادية المطلوبة لقيام هذه النواة، هي أولاً: وجود الحزب السياسي المبدئي المؤهل لقيادة الأمة بما يحمله من فكر سياسي صحيح، وما يطرحه من المشروع السياسي الإسلامي الواضح المتكامل للدولة الإسلامية. وثانياً: توافر الحاضنة الشعبية في البلد لهذا المشروع السياسي وحَمَلته، وارتقاء الناس ليس إلى مستوى قبول قيام هذه الدولة على رقعة بلادهم فحسب، بل إلى مستوى الاستعداد للدفاع عنها والتضحية في سبيلها بعد قيامها. وثالثاً: توافر القوى العسكرية التي تتبنى هذا المشروع وتتوحد على أساسه، وتنصر حَمَلَته وتسلمهم قيادتها السياسية، وتسير بانسجام مع قيادتها السياسية وحاضنتها الشعبية لإقامته على الأرض.
- وفي سوريا نرى أن الشرطين الأولين، وهما الحزب المبدئي صاحب المشروع، والحاضنة الشعبية لفكرة دولة الخلافة قد وُجدا، ولم يبق إلا الشرط الثالث، المتمثل باتخاذ قادة الفصائل العاملة قرارهم بقطع ارتباطاتهم بالخارج من أعداء الثورة، والتوحّد جميعاً على مشروع الخلافة الذي يقدمه حزب التحرير، والمضي قدماً معه وبقيادته السياسية ومع الحاضنة الشعبية نحو إسقاط النظام وإقامة دولة الإسلام.
- أما عن المقومات المادية التي يجب أن تكون متوافرة أصلاً بالحد الأدنى في البلد الذي ستقوم فيه الدولة النواة، فنعتقد أن سوريا بما تمتلكه من موقع جغرافي متميز، ومساحة تفي بالغرض، وما حباها الله به من موارد طبيعية مختلفة ونفطٍ وثروات معدنية، وزراعة توفر لها الأمن الغذائي، وشعب نشيط مبدع خلّاق بخبراته المتنوعة، نعتقد أن سوريا بمقوماتها تلك صالحة بحق لأن تكون نواة لدولة الخلافة القادمة.
- وأما عن الفارق القائم بين قوانا العسكرية وقوى أعدائنا فيجب أن نذكر أنه لم يكن نصرنا نحن المسلمين يوماً على أعدائنا بكثرة عدد ولا عتاد، وإنما كان إيماننا على الدوام هو عدتنا وعتادنا. وعندما أعجبتنا كثرتنا لم تغن عنا من الله شيئاً. فإذا أخذنا بقوله تعالى: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ﴾ حق الأخذ، وأفرغنا وسعنا في السعي بكافة السبل المشروعة للحصول على السلاح شراءً وتصنيعاً، وتوكلنا على الله واستنصرناه، فإن الله ناصرنا على جميع من عادانا. علماً أن ما بين أيدينا من سلاح حالياً كافٍ لتحقيق النصر إن نحن نصرْنا الله.
- لكن الغرب وهو يعي جيداً هذه المعادلة، قد عمل جاهداً على وضع العقبات والعراقيل أمام قيام هذه النواة في الشام، وركّز جهده على إعاقة تحقيق الشرط الثالث، واستطاع إلى الآن منع قادة فصائل الثورة من التوحد حول المشروع السياسي الذي يقدمه حزب التحرير. لقد استطاع الغرب ذلك عبر ربطهم بدوله مباشرة أو بالأنظمة العميلة التابعة له عبر المال السياسي القذر، وأنساهم فكرة إسقاط النظام، بل وجعلهم يضفون الشرعية عليه، عبر إدخالهم في دوامة الهدن ومتاهة المفاوضات، وجرّهم إلى المؤتمر تلو المؤتمر، بدءاً من الرياض ومروراً بالأستانة وانتهاءً بجنيف وسوتشي.
- إن هذا أخطر ما فعله الغرب لمنع الثورة من الوصول إلى هدفها، وهو مصادرة قرارات قادة فصائل الثورة ومنعهم من اتخاذ القرار الصحيح بتسليم قيادتهم السياسية إلى حزب التحرير، حيث استطاع الغرب بذلك جرّ الثورة من مأزق إلى مأزق وهو يقودها في طريق القضاء عليها... فأين أهل الثورة من واقعها الحالي؟! وهل هم راضون عن تلاعب قادة فصائلها بها؟! وكيف ينامون مطمئنين وأولئك يسيرون بهم وبثورتهم إلى مصير مظلم؟! ثم هل خرج أهل الثورة فيها وقدموا مئات آلاف الشهداء من فلذات أكبادهم كي يعتلي صهوتها التافهون من أذناب أعدائها ويقودوها إلى حتفها المؤلم في قبضة النظام من جديد؟!
- إن الحقيقة المُرّة تقول: إذا تخلى أهل الثورة في الشام عن الهدف الذي خرجوا لتحقيقه، وهو إسقاط النظام وإقامة نواة دولة الإسلام، ولم يقوموا بواجبهم في توجيه قادة الفصائل المخطئين ومحاسبتهم وأطرهم على الحق أطراً، فإنهم يعرّضون أنفسهم إلى خطر عظيم لن ينتهي بقتل الرجال وانتهاك الأعراض في الدنيا، بل سيمتد عقابهم إلى الخزي والندامة والعذاب العظيم في الآخرة، وستجري عليهم سنة الله في الاستبدال، وسيأتي الله بقوم آخرين يتمسكون بحبله المتين، وينصرون الله فينصرهم الله، وما ذلك على الله بعزيز.
- ورغم أن أهل الشام اليوم على حافة خطر عظيم، لكنهم في الوقت ذاته أمام فرصة تاريخية عظيمة، وهي أن تقام على أيديهم وفي بلادهم نواة دولة الإسلام التي ستقرر مصير الأرض، وتخلص البشرية المنهكة من ظلم الرأسمالية المتوحشة... والكرة اليوم لا تزال في ملعب أهل الشام، وزمام المبادرة لا يزال في أيديهم... فهل يفعلها أهل الشام؟ أم أنها سنة الاستبدال؟!
بقلم: عبد الحميد عبد الحميد
رئيس لجنة الاتصالات المركزية لحزب التحرير في ولاية سوريا
رأيك في الموضوع