لم يكن إعلان ترامب أن القدس عاصمة لكيان يهود والشروع في نقل سفارة بلاده إليها، سلوكاً ارتجالياً أو خروجاً عن مسار الإدارة الأمريكية رغم كل ما يقال عن تصرفات ترامب الرعناء والحمقاء، بل كان هذا الإعلان خطوة في مسار التسوية التي تخطط لها هذه الإدارة بغرض تصفية قضية فلسطين ودمج كيان يهود في تحالفات إقليمية مع ما يسمى بمحور الدول السنية تحت ذريعة محاربة "الخطر!" الإيراني، ضمن رؤية أمريكية لإعادة صياغة المنطقة.
إن إعلان ترامب جاء مقدمة وخطوة أولى لما بات يسمى بصفقة القرن فكان "جزرة" أو "طعما فاتحاً للشهية" قُدم لكيان يهود لإغرائه بالموافقة على تفاصيل الصفقة التي سيعلن عنها لاحقا، حيث إن هذا الكيان الأكذوبة هو الذي كان - في ظل انبطاح السلطة وحكام المسلمين - يتمنّع ويعرقل الحلول الدولية المطروحة، رغم أن أمريكا تجعل من الحفاظ على أمنه ودمجه في المنطقة من أولوياتها، لكن وَفْقَ رؤيتها هي لا حسب رغباته، إذ إن هذا الكيان، وخاصة في ظل حكم حزب الليكود، يرى الواقع القائم باستيلائه على الأرض وعدم اضطراره لتقديم أية تنازلات هو الخيار الأفضل.
لقد عمدت الإدارة الأمريكية خلال الأشهر الماضية وخاصة بعد إعلان ترامب إلى تسريب تفاصيل خطتها لتوجد حراكاً وجدلاً وواقعاً سياسياً حول ما تزمع طرحه دون أن تعلن عن ماهية خطتها رسمياً، ولتكون ردود الفعل جزءاً من تحديد معالم هذه الصفقة التي ليس بالضرورة أن تكون تفاصيلها الفعلية كما سربت إعلامياً، فلقد عمدت هذه الإدارة إلى الغموض بشكل مقصود. (قالت مندوبة أمريكا في الأمم المتحدة: إن التغيير أكثر إنتاجية من الوضع القائم، وأضافت: "كانت السنوات الـ22 عاما ورقة المساومة، ولم تؤد بنا إلى السلام... ماذا لو حرك هذا القرار الكرة للإمام"، وقالت هيلي إن سياسة ترامب غامضة بشكل مقصود، "فنحن لا نتحدث عن الحدود أو الخطوط لسبب ما... وأيا كانت (القدس الشرقية) أو أي جزء منها فإن ذلك للفلسطينيين و(الإسرائيليين) ليقرروا"، (عربي٢١، ١١/١٢/٢٠١٧).
وإزاء ذلك انقسمت ردود الفعل إلى صعيدين ظاهرهما الرفض وباطنهما خلافات في الرؤية والمنطلق والأهداف؛
فعلى الصعيد السياسي، فقد كانت ردود فعل السلطة والأردن والأنظمة الموالية لبريطانيا معارضة لهذا الإعلان، وقد انتظمت هذه الردود ضمن المسعى الأوروبي الذي أحس بالتهميش والتهديد لعملائه في المنطقة فتحرك ساعياً لإيجاد قوة ضاغطة وجبهة معارضة لعلها تدفع الإدارة الأمريكية لإعادة النظر في مخططاتها فتعيد إشراكها في تحديد معالم المنطقة وتحفظ لها نفوذها أو بعضاً منه؛
وضمن هذا التوجه يُفسر الموقف الأوروبي في مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة، ودوام تأكيد زعمائه التمسك بحل الدولتين، ودعوة رئيسة وزراء بريطانيا للرئيس الأمريكي بإعادة طرح أفكار جديدة للسلام (حثت رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على طرح مقترحات جديدة لتحقيق السلام في الشرق الأوسط وذلك بعد قرار الرئيس الأمريكي الاعتراف بالقدس عاصمة لكيان يهود). (رويترز، ١٩/١٢/٢٠١٧)، لكن هذه الردود الأوروبية لم ترقَ حتى الآن لمستوى تحدي الإرادة الأمريكية أو عرقلتها فعلياً، ولعل رفض الرئيس الفرنسي الاعتراف بـ"دولة فلسطين" واعتباره أن هذه الخطوة خاطئة مؤشر على ذلك، (اعتبر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أن الاعتراف بدولة فلسطين سيكون في الوقت المناسب وليس كرد فعل أو بتسرع، موضحا "أن اتخاذ أي قرار أحادي اليوم سيكون خاطئا وسيكون رد فعل على قرار أحادي آخر في المنطقة..."). (صحيفة العرب، ٢٣/١٢/٢٠١٧)
وعلى الصعيد ذاته اتسمت ردود أفعال الأنظمة الموالية لأمريكا، من مثل النظامين المصري والسعودي بالشكلية، فقد اكتفت - على استحياء - ببعض الخطابات وبحضور هزيل للمؤتمرات وببيانات الشجب والاستنكار، بينما هي فعليا تسير في تنفيذ المخطط الأمريكي.
لذلك فإنه من غير المرجح أن تستجيب أمريكا لردود الفعل الدولية، رغم ما يشاع إعلاميا عن تراجعها عن صفقة القرن، بل ستمضي في خطتها وستسعى لتذليل العقبات في طريقها، ولعل ما يتداول إعلاميا من سعيها لتغيير قيادة السلطة هو مؤشر على أن صفقة القرن لم تُطوَ في الأدراج بل لا زالت مطروحة على الطاولة وتمهد لها الطريق، (نقلت صحيفة الشرق الأوسط اللندنية عن مصدر فلسطيني مطلع قوله إن "الإدارة الأمريكية باتت تريد بشكل ملح قيادة فلسطينية جديدة، بعد عام كامل كانوا يكتفون فيه بجس النبض"، مؤكدا أن "القيادة الفلسطينية على فهم كامل أن التوجه الأمريكي الآن منصب على إيجاد بديل لعباس"). (عربي ٢١، ٢٥/١٢/٢٠١٧).
أما الصعيد الآخر من ردود الفعل فهو ردة فعل الشعوب التي أظهرت وحدة قضاياها ومشاعرها الإسلامية المتقدة وتطلعها لتحرير فلسطين، لكن الحكام وأنظمتهم ووسائل إعلامهم، لا سيما في الدول العميلة لبريطانيا ولأوروبا عموما، سعوا لركوب هذه الموجة وتسخيرها لدعم توجههم، وهم يزعمون حرصاً على القدس، والقدس منهم براء، بل هم يمثلون الطرف الآخر من المؤامرة باعترافهم بأحقية كيان يهود بغربي القدس و80% من فلسطين.
إن ردة فعل الشعوب تحمل في طياتها الخير لكنها تتطلب الوعي على مخططات المستعمرين وأدواتهم، لذلك وجب على الأمة أن تعزل تحركاتها عن تحركات هذه الأنظمة العميلة وأن ترفض أن تكون مطية لها، وأن ترفض جميع المشاريع الاستعمارية مهما كان شكلها أو اسمها، من حل الدولتين أو صفقة ترامب أو الحل الإقليمي أو حل الدولة الواحدة، وأن تركز جهودها على استنهاض جيوش المسلمين كي تتحرك لتحرير فلسطين والقضاء على كيان يهود قضاء مبرماً، وبذلك تفشل الأمة صفقة ترامب وإعلانه وتقضي على نفوذ أمريكا وبقية المستعمرين في فلسطين والمنطقة.
إن مخططات المستعمرين، من أمريكان وأوروبيين، ليست قدرا مقدوراً، وبمقدور الأمة أن تفشل هذه المخططات وترد كيد الكافرين إلى نحورهم، وتردهم خائبين خاسرين، لكن ذلك لن يمر عبر بوابات الحكام العملاء ولا عبر المؤسسات الدولية الاستعمارية ولا عبر الوسطاء الدوليين، فهؤلاء جميعاً هم أس الداء ولا يمكن أن يكونوا يوماً سبباً للشفاء، فما على الأمة سوى أن تعتصم بحبل الله وتتقيد بشرعه وأن تأخذ بأسباب النصر والتحرير، وأن تسعى مع الساعين لإقامة الخلافة على منهاج النبوة فيعز المسلمون ويفلحوا، وما ذلك على الله بعزيز.
عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير الأرض المباركة فلسطين
رأيك في الموضوع