قام الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بجولة إفريقية الأسبوع الماضي بدأها في الرابع والعشرين من شهر كانون أول/ديسمبر من العام الماضي 2017 وأنهاها في السابع والعشرين من الشهر نفسه، وشملت الجولة ثلاث دول هي السودان وتونس وتشاد، تمّ خلالها توقيع اتفاقيات اقتصادية وتجارية عديدة.
وفي السنوات الثلاث الماضية قام أردوغان بأكثر من عشرين زيارة إلى دول القارة الإفريقية في محاولة منه لإثبات حضور تركيا في إفريقيا، والمساهمة في مد النفوذ الأمريكي إلى القارة السوداء على حساب النفوذ الأوروبي، ومنافسة القوى الإقليمية الأخرى النشطة في سعيها لاقتناص جزءٍ من الكعكة الإفريقية الغضّة.
ولعل من أهم أهداف جولات أردوغان تلك هو منافسة دولة الإمارات العربية التي تسعى هي الأخرى لإيجاد موطئ قدم لها في إفريقيا بتكليفٍ من بريطانيا، فأردوغان يُحاول إدخال تركيا في السباق الاقتصادي الدولي المفتوح على مصراعيه للولوج إلى السوق الإفريقي المُتعطش للسلع والخدمات، ولترجمة هذا الدخول الاقتصادي إلى نفوذ سياسي.
وكان توقيع اتفاقيات للتعاون العسكري والاقتصادي مع السودان وخصوصاً اتفاقية: "إعادة إعمار وترميم آثار جزيرة سواكن" الاستراتيجية جزءاً من معركة الموانئ مع الدول المنافسة التي أصبحت تبني قواعد بحرية لها في المدن الإفريقية الساحلية، لا سيما الإمارات التي باتت تمتلك موانئ عدة في ليبيا والصومال واليمن.
تُوظف تركيا قوتها الاقتصادية المُتصاعدة للخوض في هذا السباق المحموم نحو أسواق القارة الإفريقية، ونحو أجوائها السياسية، وذلك على غرار ما قامت به القوى الإقليمية من قبل في هذا المضمار كالصين واليابان وكيان يهود والإمارات، فضلاً عن سائر القوى الاستعمارية الكبرى.
وفي زيارته الحالية للسودان على سبيل المثال اصطحب أردوغان معه وفداً مؤلفاً من 150 رجل أعمال تركياً، تمّ فيها توقيع اثني عشر اتفاقا للتعاون في المجالات الثقافية الزراعية والاقتصادية والمالية والمواصلات، وارتفع بعد هذه الزيارة حجم الشراكة التجارية التركية السودانية من 500 مليون دولار، لتصل بشكل مبدئي إلى أكثر من مليار دولار، ثم لتبلغ في المستقبل إلى هدفها النهائي المقرر وهو 10 مليارات دولار.
لقد زاد حجم الصادرات التركية مع الدول الثلاث التي زارها أردوغان ليصل إلى 6.2 مليار دولار، وزاد حجم التجارة معها بنسبة 29 بالمئة في السنوات الأخيرة.
وتأتي تونس على رأس الدول الثلاث في حجم الصادرات التركية خلال الفترة ذاتها، حيث بلغت 4.3 مليار دولار، ثم السودان 1.7 مليار دولار ثم تشاد نحو 78 مليون دولار.
وهذه الأهداف الاقتصادية والتجارية التي يُراد تحقيقها من مثل هذه الزيارات والاتفاقيات لا شك أنّها تندرج ضمن الصراع الاستعماري على إفريقيا والذي أصبحت فيه الدول الإقليمية والمحلية كتركيا والإمارات أدوات رخيصة تُستخدم لمد النفوذ السياسي للقوى الكبرى.
يقوم أردوغان بدور نشط في دعم الأنظمة العميلة لأمريكا كنظام البشير في دولة السودان التي أرهقتها الحروب الأهلية ومزّقتها المؤامرات الخارجية، فتحتاج هذه الدولة المتهالكة إلى من يُسندها ويحمي نظامها من السقوط، ولعل أفضل وسيلة لدعمها وتثبيتها هو ربطها بعلاقات قوية مع دولة خادمة للسياسة الأمريكية كتركيا.
وفي تونس تحتاج أمريكا لإدخال نفوذ جديد لها يُنافس النفوذين البريطاني والفرنسي المُهيمنين على القوى السياسية الرئيسية في تونس فتجد في أردوغان الوسيلة الأنجع لإدخال النفوذ الأمريكي فيها، وذلك من خلال تقديم العروض الاقتصادية السخية لتونس التي تفتقر بريطانيا وفرنسا إلى تقديمها.
وأمّا في تشاد فتُحاول أمريكا من خلال تركيا أردوغان مُنافسة النفوذ الفرنسي القديم فيها من خلال التغلغل الاقتصادي التركي القوي فيها، والذي تضِنّ فرنسا المستعمِرة عن تقديم مثله لتشاد، وتبخل عن تقديم ما يمكّن الدولة التشادية من الاستفادة من ثرواتها، فتجد أمريكا في تركيا وكيلاً مُناسباً لها يقوم بدور مُنافس للدور الفرنسي فيها.
إنّ سياسة إدارة ترامب أصبحت أكثر ميلاً للاعتماد على عملائها ووكلائها في ترسيخ نفوذها في الدول التي يجري فيها صراع دولي كتونس وتشاد اللتين زارهما أردوغان في جولته الأخيرة، وإنّ دبلوماسية تسخير الآخرين لخدمة المصالح الأمريكية يبدو أنّها أصبحت أقل كلفة وأكثر نجاحا بالنسبة للإدارة الأمريكية.
لقد أصبح أردوغان عرّاباً للسياسة الأمريكية بما يملك من طموح سياسي ورغبة في البقاء بالسلطة إلى أمدٍ بعيد، خاصة بعد نجاحه في القضاء على خصومه من العساكر ورجالات القضاء التابعين لبريطانيا، بذريعة تصفية آثار الانقلاب المزعوم لجماعة فتح الله غولن، لذلك يُعتبر أردوغان من أقوى العملاء الذين تعتمد أمريكا عليهم في المنطقة.
فمقارنةً بالسيسي والملك سلمان يُعتبر أردوغان شخصية مقبولة إقليمياً، ويمتلك كاريزما من التضليل يفتقر إليها سائر الحكام العملاء كالسيسي وسلمان، لذلك كان استخدامه في التنافس الدولي أمراً سائغاً بالنسبة لأمريكا.
لكنّ مواقف أردوغان الأخيرة خاصة المتعلقة بسوريا وفلسطين، والتي أظهرت للعامّة فضلاً عن الخاصّة خذلانه لثورة الشام وسيره مع الطغاة، ومتاجرته بالشعارات الفارغة حول فلسطين، هذه المواقف المفضوحة ستُعرّيه أمام الجماهير، وستُفقده مع الأيام زخم شعبيته المُصطنعة الزائفة، ومن ثمّ سينكشف أمام الجماهير باعتباره أحد الزعماء المُهرجين الذين لم يُقدّموا لقضايا الأمّة المصيرية إلا الشعارات والأقوال، والذين كانوا جزءاً حيوياً من المشروع الأمريكي الاستعماري في المنطقة.
رأيك في الموضوع