(الحلقة الأولى)
منذ أواسط شهر 10/2016 والملك يقوم بجولات شبه متواصلة في دول إفريقيا قادته لحد الآن إلى عشر دول هي رواندا، وتنزانيا، وإثيوبيا، ومدغشقر، ونيجيريا، وجنوب السودان، وغانا، وزامبيا، وغينيا كوناكري وساحل العاج حيث لا يزال هناك إلى الآن، وفي كل هذه التحركات يرافقه وفد كبير من وزراء وكبار مسئولي الدولة وكبار رجال الأعمال. وكالعادة يتم التوقيع بمناسبة كل زيارة على عشرات الاتفاقيات في شتى المجالات.
بدأ الملك هذه الجولات الإفريقية في شهر شباط/فبراير 2014، ومنذ ذلك التاريخ أصبحت هذه التحركات شبه عرف ثابت فيما أصبح يطلق عليه الدبلوماسية الملكية. ويظهر المغرب نوعاً من السخاء في تقديم المساعدات للدول الإفريقية كما يقوم بإنجاز عدد من المشاريع في المجال الصحي والتعليمي إلى حدٍّ دفع جهات عديدة في المغرب للتساؤل عن جدوى هذا السخاء في حين يعاني أهل المغرب في مناطق كثيرة من الفقر وغياب البنيات التحتية الأساسية!
منذ بدء هذه الجولات قبل ثلاث سنوات، أسالت هذه الرحلات كثيراً من الحبر، خصوصاً في الصحافة المحلية، التي بالغت في وصف نتائجها الباهرة حتى جعلتها فتحاً عظيماً وبشارة خيرٍ عظيمةً للاقتصاد المغربي الذي يعاني من تداعيات الأزمة الخانقة، ووعداً بقارة إفريقية مزدهرة...، فما الغاية الفعلية من هذه الجولات وأي فائدة يمكن أن يجنيها المغرب منها؟
للجواب على هذه الأسئلة يجب استحضار ما يلي:
- إن الزخم الذي تتسم به هذه الزيارات سواء من حيث عدد البلدان التي تتم زيارتها أو من ناحية عدد الاتفاقيات التي يتم توقيعها أو تعدد مجالات الاتفاقات وحتى الخلفية الاستعمارية لهذه البلدان (فرانكوفونية أو إنجلو سكسونية)، أكبر بكثير من حجم المغرب وإمكانياته.
- من الواضح أن هذه الجولات تكتسي أهمية تفوق الشأن الداخلي المغربي، فالمغرب يتخبط منذ 5 أشهر نتيجة عجز بنكيران عن تشكيل الحكومة مع كل ما يستتبع هذا التأخير من نتائج كعدم اعتماد الميزانية وتجميد أداء مستحقات المقاولات التي تشتغل مع الدولة، ومن المعروف أن بنكيران لن يستطيع تشكيل حكومته إلا بعد أن يضع القصر لمساته النهائية عليها. ورغم ذلك يفضل الملك المضي قدماً في جولاته على حلحلة أزمة تشكيل الحكومة.
من نافلة القول الإشارة إلى أن فرنسا وبريطانيا - أوروبا (المستعمر القديم) وأمريكا (المستعمر الجديد الطامح للعب دور أكبر) هما اللاعبان الأساسيان في إفريقيا بدون منازع، وأنه لا يمكن تصوُّر أن يكون المغرب، بشكل أحادي، يُسابق أحدهما أو كليهما. كما لا يخفى على المتابعين التنافس الدولي عموماً، والأمريكي- الأوروبي والأمريكي - الفرنسي/البريطاني خصوصاً، على خيرات إفريقيا، والزيارات المتكررة للرؤساء وكبار المسئولين الأمريكيين والفرنسيين والبريطانيين للدول الإفريقية خير دليلٍ. وهذا الصراع ليس جديدا، ففي سنة 1998 ولصد محاولات التغلغل الأمريكي في إفريقيا وضعت كل من بريطانيا وفرنسا جانبا قرنا من الصراع للهيمنة على خيرات إفريقيا ووقعتا على اتفاق "سانت-مالو 2" الذي دعا حكومتيْ البلدين لتنسيق سياساتهما تجاه إفريقيا وتقوية التعاون بين سفارات البلدين بإفريقيا من خلال تبادل المعلومات والموظفين وقد أكدتا على تمسكهما بهذا الاتفاق في القمة الفرنسية البريطانية بكاهور 2001 وقمة لو توكي 2003، وهما تستغلان القمم الاقتصادية مع إفريقيا لتعزيز هذا التنسيق حفاظا على نفوذهما في مستعمراتهما القديمة. وفي مقابل هذا التنسيق فقد أعلن أوباما الرئيس الأمريكي السابق سنة 2012 عن الاستراتيجية الأمريكية تجاه البلدان الأفريقية جنوب الصحراء الكبرى. فطرفا الصراع على إفريقيا هما أمريكا من جهة وفرنسا وبريطانيا من جهة ثانية. والمغرب في حلبة هذا التنافس الدولي إنما يخدم سياسة أحد طرفي الصراع، فأي جهة يسير المغرب في ركابها وتخدم زيارات الملك المتكررة مصالحها؟
إن المتابع يرى أن كفة فرنسا في الصراع تطيش يوماً بعد يوم وباعتراف المسئولين الفرنسيين حيث تتابعت التقارير عن تلاشي هيمنة فرنسا على اقتصادات الدول الإفريقية. أصدر مجلس الشيوخ الفرنسي في 30/10/2013 تقريراً مطولاً عن العلاقات الفرنسية الإفريقية بعنوان "إفريقيا هي مستقبلنا" يتحدث بمرارةٍ عن تراجع الدور الفرنسي في إفريقيا لصالح الصين والولايات المتحدة الأمريكية ودول صاعدة أخرى، وعن الصعوبات الجمَّة التي تجدها فرنسا للمحافظة على نفوذها داخل الدول الفرانكفونية (التي كانت تعتبرها ملكية خالصة لها) وشِبه عجزها عن اختراق الدول الإنجلوسكسونية. ويقترح التقرير عشر أولوياتٍ و70 إجراءً لإعادة دفع العلاقات بين فرنسا وإفريقيا من بينها: تغيير الخطاب الفرنسي الموجه إلى إفريقيا والكف عن اجترار الحديث عن العلاقات التاريخية، وتطوير العلاقات الثنائية بين الدول الإفريقية لتحقيق اكتفاء ذاتي إفريقي وقطع الطريق أمام الدول الأجنبية (والمقصود بها طبعاً الصين وأمريكا)، وتطوير التعاون الثلاثي بالتعاون مع شركاء لا يحملون ماضياً استعمارياً. وإن من يقرأ هذا التقرير وما صدر عنه من توصياتٍ، ويقارنه بالخطاب الذي ألقاه الملك في افتتاح المنتدى الاقتصادي المغربي الإيفواري بأبيدجان في 24/02/2014 ليكاد يجزم أن الكاتب واحد، جاء في خطاب الملك: "أما المصداقية، فتقتضي أن يتم تسخير الثروات التي تزخر بها قارتنا، في المقام الأول، لصالح الشعوب الإفريقية، وهو ما يستوجب وضع التعاون جنوب-جنوب، في صلب الشراكات الاقتصادية بين بلدانها... كما يجب عليها (إفريقيا) أيضا أن تستفيد من الفرص التي يتيحها التعاون الثلاثي، كآلية مبتكرة، لتضافر الجهود والاستثمار الأمثل للإمكانات المتوفرة. وفي هذا الصدد، فإن المغرب، الذي كان رائداً في هذا النوع من التعاون، يعرب عن استعداده لجعل رصيد الثقة والمصداقية الذي يحظى به لدى شركائه، في خدمة أشقائه الأفارقة".
وبعد شهرٍ ونيِّفٍ من صدور التقرير المذكور، أصدرت لجنة يرأسها هوبير فيدرين وزير الخارجية الفرنسي السابق في 04/12/2013 دراسة أخرى عن نفس الموضوع أجرتها بطلبٍ من وزارة الاقتصاد والمالية الفرنسية بعنوان: "شراكة للمستقبل، 15 مقترحاً لدينامية اقتصادية جديدة بين أفريقيا وفرنسا" ذكرت فيه أن فرنسا فقدت في العقد الأول من هذا القرن (2000-2011) قرابة 50% من حصتها في سوق دول جنوب الصحراء". جاء في الصفحة 64 من الدراسة: "استطاعت فرنسا بناء شراكة اقتصادية أوثق مع بلدان شمال أفريقيا، تجعل الشركات الفرنسية قادرة على الاستفادة من التوسع الاقتصادي لهذه الدول في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى". وفي الصفحة 139 أوصت الدراسة بتقوية الوجود الفرنسي في الدول التي تعتبر بوابة دخول (أو دول قاطرة) إلى باقي الدول الإفريقية وذكرت من بين هذه الدول المغرب.
إن كون مفكري وسياسيي فرنسا يصدرون في ظرف أقل من شهرين تقريرين عن نفس الموضوع، أحدهما يحمل عنواناً مثيراً: "إفريقيا هي مستقبلنا"، ويدقون ناقوس الخطر ويخرجون بنفس النتائج ويصدرون توصياتٍ متقاربة، يعني بلا شك أن فرنسا مُنشغلة جداً بهذا الأمر وأنها ترى أن مصالحها في خطر شديد، وأنها ترى أن عليها القيام بإجراءاتٍ مستعجلة لتدارك تلاشي نفوذها وتطويق اندفاع منافسيها. نشر موقع كام نيوز بتاريخ 19/03/2014 نقلاً عن محللين أمريكيين توصيتهم للشركات الأمريكية بالمسارعة في التوجه إلى الغابون التي وصفوها بأنه "جوهرة صغيرة".
نشرت جريدة لوموند أفريك بتاريخ 30/09/2016 مقالاً بعنوان: "ما هي أفضل استراتيجية اقتصادية لفرنسا في إفريقيا؟"، نقلت فيه عن إيزابيل بيبيار (مديرة القسم الدولي في البنك الشعبي للاستثمار الفرنسي) ما يلي: "يجب الاستثمار في إفريقيا الآن لأنها القارة التي تزدهر على الرغم من أن بعض البلدان فيها لا تزال تواجه صعوبات، يجب علينا أن نفعل ذلك الآن لأن المنافسة ستصبح أكثر ضراوة. الفرنسيون لديهم علاقات وثيقة ومواقع اقتصادية جيدة في غرب أفريقيا عليهم أن يحافظوا عليها ولا يسمحوا بأن يسحب البساط من تحت أرجلهم. من الأكيد أن حصتنا في السوق قد تراجعت، لكن رغم ذلك فرنسا لا تزال حاضرة".
وبهذا يمكن فهم الأولوية القصوى التي يوليها القصر لهذه الجولات، فهي ليست نابعةً من مصلحة وطنية، وإنما انعكاس للأولوية التي يوليها مصدر الأمر، أي فرنسا.
رأيك في الموضوع