إنه من حقائق التاريخ الصادقة أن الإسلام نجح نجاحا منقطع النظير في صهر شعوب مختلفة الأعراق والأجناس في بوتقة العقيدة الإسلامية، بينما فشلت المبادئ الأخرى في تحقيق ذلك، بل إنها ركزت القومية والوطنية وفكرة الأقليات التي تعيش بين ظهراني الأكثرية. فالغرب الذي يعاني من هذه الفرقة والانقسام ولم يستطع أن يصهر شعوبه في بوتقة مبدئه الرأسمالي قد استخدم ذلك سلاحا لتقسيم الأمة الإسلامية وهدم عرينها الخلافة.
ومن هنا ننطلق ونحدد الزاوية التي تنطلق منها تركيا القومية والحركات الكردية القومية، والطرفان يتصارعان، فيعود أبناء المسلمين كالكفار يضرب بعضهم رقاب بعض. فالتبعية الفكرية والسياسية للطرفين واحدة وهما يستندان إليه، ويطلبان منه الحل والعون، وهو الغرب وقائده الجديد أمريكا. فتركيا أردوغان وحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي يتبعان هذا القائد اللعين ويؤديان له ما يريد ولكنهما متخاصمان على مصالحهما القومية.
فنرى وزير خارجية تركيا جاويش أوغلو يعلن يوم 15/8/2016 "أن بلاده تنتظر قيام الولايات المتحدة الأمريكية بالوفاء بوعودها حول قيام ميليشيات حزب الاتحاد الديمقراطي PYDالمنضوي تحت "سوريا الديمقراطية" بالانسحاب من مدينة منبج شرقي حلب". وأضاف أن "هناك وعودًا قطعتها الولايات المتحدة ورئيسها أوباما بشأن انسحاب عناصر الحزب من منبج إلى شرقي نهر الفرات عقب انتهاء العمليات، حيث تنتظر تركيا من الولايات المتحدة أن تفي بوعدها". أرأيتم كيفية تبعية تركيا أردوغان لأمريكا!
فتركيا عارضت تحرك هذا الحزب وعدّته إرهابيا، وعندما قصفته مرة أوقفتها أمريكا، فخضعت تركيا وسكتت عن تحرك مليشياته العميلة وعن دعم أمريكا المباشر لها حتى وصلت إلى منبج. فخافت تركيا مرة أخرى من أن يكون ذلك مقدمة لرسم حدود لكيان كردي في سوريا يحاذي المناطق الكردية في تركيا مما يشجع الانفصاليين الأكراد على زيادة نشاطهم في تأسيس مثل هذا الكيان داخل تركيا ضمن هذه المناطق، وهي تقود حربا شبه يومية مع هؤلاء الانفصاليين القوميين منذ عام 1984م.
فأجابه مساء يوم 15/8/2016 المتحدث باسم وزارة الدفاع الأمريكية أدريان رانكين غالواي قائلا: إن "الولايات المتحدة ممتنة ليقظة تركيا وشراكتها في معركة مكافحة تنظيم الدولة... ونحن ملتزمون بتنفيذ هذه العمليات بطريقة تتلاءم مع التعهدات التي اتفق عليها بلدانا، وسنستمر بالتواصل مع أنقرة في هذا المجال وغيره". وأضاف: "كنا واضحين مع جميع عناصر هذه العملية، بأن الهدف من هزيمة تنظيم الدولة في منبج هو إعادتها إلى سيطرة وحكم السكان المحليين". فهذا دليل على أن تركيا توقفت عن قصف المليشيات العميلة امتثالا لأوامر أمريكا، ويعدّ امتثالها هذا دعما لهذا الحزب فجعلته يتمدد في خضم العدوان الأمريكي. وهذا سينقلب عليها، وهي تثق بوعود أمريكا التي تمنّيها وتعدها وما تعدها إلا غرورا، فكيف ستعيد منبج إلى حكم السكان المحليين، من سيشرف على هؤلاء السكان ومن سيدير المدينة؟! ومن سيحميها لأمريكا حتى لا يعود إليها تنظيم الدولة أو الفصائل الأخرى؟!
ورئيسها أردوغان متخوف من حركات سيدته أمريكا التي طالما لعبت به وبغيره، فلمح يوم 18/8/2016 إلى "إمكانية ضرب بلاده لوحدات حماية الشعب"ypg" "إذا اقتضت الضرورة"، مؤكدًا أنه "يُشكل تهديدًا ضد تركيا". وقال: "إن تركيا ستحارب "ypg"في جميع المناطق في تركيا، لافتًا إلى أنه يشن هجمات في شمال سوريا، ويُشكل تهديدًا ضد بلاده، وأن تركيا "ستواصل محاربة الإرهاب في كل مكان وفي شمال سوريا إذا اقتضت الضرورة". إنه وإن قام بضربها فسيكون لخداع الناس ومن ثم تسكته أمريكا كما حصل في المرة السابقة يومي 10و11/4/2016. ولهذا السبب يقول "إذا اقتضت الضرورة"! وهو يعلم أن هذه الوحدات تشكل تهديدا لتركيا، فكل ما يريده أن يبعد خطرها عن تركيا فقط، ولا يهمه إن بقيت داخل سوريا ولم تشكل تهديدا لتركيا! فعندئذ ستتدخل أمريكا وتخدع تركيا بأن هذه الوحدات لا تشكل خطرا عليها وهي ترسخ وجودا كرديا بشكل ما، لأنها ترى أن الحركات الكردية القومية صادقة في عمالتها لها، وقد سمحت لها بإقامة قاعدة أمريكية لأول مرة في تاريخ سوريا.
وأضاف أردوغان: أن "الغرب لم يفهم ولا يفهم دواعي محاربة تركيا لتلك التنظيمات"، مشيرًا إلى أن تركيا "تُدرك أن الغرب لم يتصرف بمصداقية" في هذا الصدد.
فأردوغان يدرك أن الغرب لم يتصرف بمصداقية وعلى رأسه أمريكا، فلماذا يتبعها ويتعاون معها ويفتح لها القواعد لتنطلق في محاربة المسلمين في سوريا؟ وهو لا يعترض على وجود تلك الوحدات العميلة وتبعيتها لأمريكا وإنما يعترض عليها عندما تهدد تركيا! ومتى كان للغرب مصداقية وهو الذي قضى على الخلافة العثمانية وسخّر أتباعه من خونة العرب والترك والكرد وغيرهم لهدمها وتمزيق بلادهم باسم القومية كما يسخّرهم اليوم لمنع عودة الخلافة ولتمزيق الممزق؟ وهل نسي ما فعلته أمريكا في شمال العراق؟ فكانت تركيا تعمل على منع إقامة كيان معين للأكراد، ودخلت المنطقة أكثر من مرة وضربت المتمردين الأكراد، وكانت أمريكا تدّعي أنها تؤيد تركيا! ولكن بعد احتلالها للعراق أقامت فيه كيانا للأكراد شبه مستقل فسكتت تركيا، بل اعترفت بهذا الكيان وقوت علاقاتها معه.
إن تركيا الآن ليست بصدد محاربة الحزب الوطني الديمقراطي بقدر ما هي بصدد تنفيذ أوامر أمريكا لإنقاذها من مأزقها، فلم يبق لأمريكا سوى تركيا لتشكل تحالفا مع روسيا وإيران في محاولة فاشلة بإذن الله للقضاء على الثورة في الشام وإخضاع الثوار لمشروعها السياسي وليحقق رئيسها أوباما نجاحا بعد فشله طوال خمس سنوات قبل مغادرته البيت الأبيض وليصب ذلك في خانة الديمقراطيين وهم يخوضون الانتخابات. فتركيا ستسير في فرض الحل السياسي الأمريكي على الثوار بجانب تحركها العسكري مع روسيا وقد أعلن رئيس وزرائها يلدريم يوم 20/8/2016 أن "تركيا ترغب بالقيام بدور أكبر في الأزمة السورية خلال الشهور الستة المقبلة". وقال "شئنا أو أبينا، الأسد هو أحد الفاعلين اليوم... ويمكن محاورته من أجل المرحلة الانتقالية". وهكذا تعلن تركيا خيانتها لأهل سوريا المسلمين بعدما خادعتهم لسنين.
وستبرر تركيا تحركها هذا بمحاربتها تنظيم الدولة والانفصاليين الأكراد ومنعهم من إقامة كيان كردي، ولهذا أضاف يلدريم قائلا: "هذا يعني عدم السماح بتقسيم سوريا على أساس عرقي، لأن هذا الأمر ذو أهمية بالغة بالنسبة لتركيا".
فلن تخالف تركيا أمريكا بأي شيء، وأمريكا ليست بصدد إقامة كيان للأكراد حاليا، وإن كانت تخادعهم بذلك، ولا يهمها ذلك بقدر ما يهمها المحافظة على نفوذها في سوريا وتركيا بتبعية النظام في البلدين لها، ولن تضحي بذلك في سبيل الأكراد، وإن هي تعمل على تسخيرهم مثلما سخرتهم في العراق. ولن تتخلى عن استخدام ورقة الأكراد للضغط على أهل سوريا حتى يقبلوا بحلولها، وإذا نجحت في الحفاظ على نفوذها، لا سمح الله، عندئذ ربما تضع صياغة دستورية تجعل للأكراد شكل حكم معين في المناطق التي سيطروا عليها.
ومع ذلك فإن درجات الوعي والإيمان والصدق العالية لدى عموم أهل الشام كفيلة بإذن الله بإفشال مخططات أمريكا وأدواتها وتطهير البلاد من رجسها ومن نتن القومية الكردية كما تطهرت تقريبا من نتن القومية العربية بسقوط حزب البعث وباقي الحركات القومية العربية وستقوى عرى الأخوة بين المسلمين في ظلال خلافة راشدة على منهاج النبوة، قريبا برحمة من الله وفضل.
رأيك في الموضوع