بدأت تركيا تنحو منحى جديدا في تعاملها مع ثورة الشام، فقد (قال رئيس الوزراء التركي، بن علي يلدريم، إن تركيا ستبذل خلال الستة أشهر القادمة جهدًا كبيرًا وستكون "أكثر فعالية مقارنة مع الفترة السابقة"، لمنع تصاعد الخطر والتوتر في المنطقة، مضيفًا: "وهذا يعني عدم السماح بتقسيم سوريا على أساس عرقي، لأن هذا الأمر ذو أهمية بالغة بالنسبة لتركيا"... كما أكّد رئيس الوزراء التركي على أن الجهود التي ستبذلها بلاده ستحول دون تشكيل حكومة قائمة على أساس عرقي في سوريا، التي عانت من مشكلة تمثيل أطياف المجتمع لأعوام عديدة، موضحًا أنها ستعمل على المساهمة في تشكيل حكومة تمثّل جميع شرائح المجتمع في سوريا وتحافظ على وحدة البلاد.) (وكالة أنباء الأناضول 20/8/2016)
وهذا المنحى الجديد ليس انقلابا في الموقف الحقيقي لحكومة أردوغان، بل هو تغير في الأساليب والأدوار اقتضاه تحقيق مصالح أمريكا في المنطقة، وهذا التغير يعبر عن عمق الأزمة التي تواجهها أمريكا للحفاظ على عميلها نظام الأسد وتأمين نفوذها في سوريا، فأمريكا المأزومة في سوريا هي وراء تغير الدور الذي لعبته تركيا منذ بداية الأزمة والمتمثل باحتضان المعارضة لاحتوائها، والسيطرة على تحركاتها في الداخل السوري، وهذا الدور كان يتناسب مع شخصية أردوغان ويحقق له مكاسب شعبية لا سيما بأن الخطابات النارية والتباكي على حال أهل سوريا وأطفالهم لم يكلفه شيئا!
إلا أن سياسة أمريكا في سوريا والمتمثلة بالقتل والتدمير والإبادة من جهة باستعمال آلة القتل الروسية والإيرانية والأذناب والأشياع، ومن جهة أخرى الاحتضان والاحتواء من خلال تركيا والسعودية والدول المأجورة الأخرى، هذه السياسة لم تؤت ثمارها، فقد عجزت روسيا بكل آلة التدمير التي قصفت بها أهالي الشام ومن قبلها إيران وحزبها في لبنان، عجزت عن تحقيق نتائج حاسمة على الأرض، بل كلما تقدموا خطوات تراجعوا أخرى، وانكشف في كل معركة حاسمة هشاشة جيش النظام وانهزامه، وقد ظهر هذا جليا في معارك حلب!. كما أن سياسة الاحتضان والاحتواء لم تستطع احتواء الثورة، وإن كانت نجحت في احتواء فصائل وأشخاص، إلا أنهم جميعا لم يتمكنوا من إخضاع الثورة وإدارة دفتها باتجاه البوصلة الأمريكية، وقد زاد من الضغط على أمريكا في سوريا ثلاثة عوامل:
الأول: روسيا التي استدعتها أمريكا لتعينها في سوريا، والتي ظنت بصفاقة رأي بوتين أن سوريا ستكون أشبه بالنزهة لها، وما هي سوى أشهر ثلاث حتى تقضي على الثورة والثوار، وتنهي مهمتها، وتقبض الثمن من أمريكا، ثم ما لبثت أن خاب ظنها، وأصبحت تقدم رِجلا وتؤخر أخرى، فقد أوشكت روسيا أن تنهي عاما كاملا، ولم تنجز شيئا، وقد بدأت ملامح السقوط في المستنقع السوري تتبدى وهذا كله جعل روسيا تتبرم، وتضغط على أمريكا تستعجلها الحل، وتطلب منها العون، فكان اجتماع كيري وبوتين.
الثاني: اقتراب الانتخابات الأمريكية، وقد شكل الإخفاق في التعامل مع أزمة سوريا نقطة سوداء في سجل إدارة الديمقراطيين، والوصول إلى نتيجة على الأرض تدعم حظوظ مرشحة الحزب الديمقراطي، وهذا يشكل ضغطا على إدارة أوباما، لأن إخفاق الحزب في الحصول على أصوات الناخبين سيعزى لأداء إدارته الضعيف. وهذا يدل عليه ما نقل عن يلدريم من قوله (وشدّد على أن تركيا ستبذل خلال الستة أشهر القادمة جهدًا كبيرًا وستكون "أكثر فعالية مقارنة مع الفترة السابقة) والستة أشهر القادمة هي آخر ما تبقى لإدارة أوباما!
الثالث: ظهور ضعف النظام الشديد، فلو رفعت عنه أجهزة الإنعاش الأمريكية (روسيا وإيران وحزبها في لبنان والأشياع والأتباع) لسقط بلا رجعة، مع عدم وضوح البديل، وعجز روسيا مع طول المدة قد يؤدي في النهاية إلى انسحابها، كما أن إيران وحزبها لم يستطيعوا أن يحققوا شيئا قبل التدخل الروسي، واللافت أن نظام الأسد بلغ من الهشاشة ما يمكن أن يجعله يتهاوى من غير إنذار مسبق، وهذا يشكل ضغطا على أمريكا.
وهذه العوامل الثلاثة جعلت أمريكا تتجه نحو إحداث تعديلات جوهرية في الدور التركي والإيراني، فتركيا من خلال عميل أمريكا أردوغان، لا سيما، وقد واتتها الفرصة بعد إخفاق انقلاب الجيش، أن الأصوات التي يمكن أن تعارض أردوغان خنست في غمرة أحداث ما بعد الانقلاب، مما جعل إعادة توظيف تركيا في سوريا يجري بهدوء، كما أن الدور التركي الجديد يساهم في إرضاء روسيا حيث إن تدهور علاقة روسيا بتركيا أضر روسيا اقتصاديا، كما أن اعتذار أردوغان لبوتين دعم موقف بوتين وأرضى غروره، وقد دفعت أمريكا بتركيا لتقوية موقف روسيا الخادم لأمريكا في سوريا فجاءت زيارة أردوغان لروسيا في 9/8/2016، وقد ظهر بعد لقاء أردوغان مع بوتين تعديلات أساسية في مواقف تركيا المعلنة، فقد جاء في تصريحات يلدريم (لمجموعة من الصحفيين في إسطنبول بأنه بينما يمكن أن يكون لرئيس النظام السوري بشار الأسد دور في القيادة الانتقالية فإنه ينبغي ألا يكون له أي دور في مستقبل البلاد. واعتبر رئيس الوزراء أن الأسد هو أحد الفاعلين في النزاع، وقال "شئنا أم أبينا، الأسد هو أحد الفاعلين اليوم" في النزاع في هذا البلد "ويمكن محاورته من أجل المرحلة الانتقالية" قبل أن يضيف أن "هذا غير مطروح بالنسبة لتركيا"، دون أن يوضح من الذي من المفترض أن يقوم بمحاورته...) (هافينغتون بوست عربي 20/8/2016)، وهذه الإعلانات التي تصدر من تركيا تقوي الدور الذي تلعبه روسيا في سوريا في خدمة أمريكا.
وقد نشرت صحيفة الشرق الأوسط في 12/8/2016 (وأكد جاويش أوغلو في مقابلة تلفزيونية، أمس، أن أنقرة ستكثف مشاركتها في العمليات ضد «داعش» وسترسل مقاتلاتها لقصف مواقع التنظيم. وقال ردا على سؤال حول التعاون الروسي التركي المشترك في محاربة «داعش»: «نعم، ما زالت فكرة إجراء عملية مشتركة مطروحة على جدول الأعمال». وذكر أن أنقرة خلال فترة الأزمة في علاقاتها مع روسيا، ظلت تدعو إلى التعاون في محاربة الإرهابيين. وتابع: «إننا نعرف جميعا أين يتواجد إرهابيو (داعش). ونحن كنا ندعو دائما إلى التركيز على العمليات ضدهم». وكانت مصادر تركية لفتت إلى أن تركيا ستزود روسيا بالمواقع التي يتعين أن تتوجه إليها ضرباتها الجوية في شمال سوريا... ونقلت وسائل إعلام تركية عن سفير تركيا في موسكو أومين ياردم، أن أنقرة تفكر في إمكانية مشاركة النظام السوري القائم في مباحثات لإيجاد حل للأزمة السورية. وأضاف ياردم: "أنقرة تفكر في إمكانية مشاركة النظام السوري في مباحثات السلام...")، وفي السياق ذاته تأتي حركة النظام الإيراني باتجاه تركيا وروسيا، فقد بادر وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف لزيارة أنقرة، تمهيدا للقاء أردوغان بروحاني مما يمهد لتفعيل التنسيق التركي الإيراني في سوريا، كما سمحت إيران على وجه لافت للطائرات الروسية باستعمال مطار همدان فقد (أعلنت وزارة الدفاع الروسية أن قاذفات "تو-22 إم 3" بعيدة المدى وقاذفات "سو-34" شنت ضربة مكثفة جديدة ضد مواقع "داعش" في سوريا، انطلاقا من مطارات في روسيا وإيران... وحسب التقييمات، يزيد استخدام القاذفات الروسية لمطار همدان من فعالية الغارات التي تنفذها بنسبة 60% بالمقارنة مع الغارات التي كانت تنفذها انطلاقا من أراضي روسيا، علما بأن هذا الأمر يتيح تقليص حمولة الوقود وزيادة وزن الأسلحة على متن الطائرات.) (روسيا اليوم 18/8/2016)، واستعمال روسيا لمطار همدان يعني أن أمريكا منحت روسيا تسهيلات ميدانية من خلال عملائها في تركيا وإيران، وهذه التسهيلات قد تتطور لاحقا كما هو متوقع لتدخل تركيا في أتون الحرب في سوريا، وقد بدأت إرهاصات هذا مع تفجيرات مطار أنقرة حيث وعلى خلاف العادة اتهم اردوغان تنظيم الدولة بالوقوف وراء العملية، في حين كانت سياسة تركيا العامة البدء باتهام حزب العمال الكردستاني، وكذلك التفجير الآثم الذي وقع في صالة أفراح في غازي عنتاب فقد (قال أردوغان، في تصريح صحفي عقب زيارة أجراها إلى بلدية إسطنبول، أن المؤشرات الأولية لدى سلطات ولاية غازي عنتاب وقوات الأمن تشير إلى مسؤولية تنظيم داعش الإرهابي عن تفجير عنتاب، وأن قوات الأمن تواصل تحقيقاتها للكشف عن تفاصيل العمل الإرهابي...) (وكالة أنباء الأناضول 21/8/2016).
وكل هذه التطورات تشير إلى أن أمريكا ستبقى تعتمد على روسيا حتى نهاية فترة أوباما الرئاسية، وستدفع بعملائها في إيران وتركيا أكثر فأكثر من أجل تحقيق نتائج قبل نهاية فترة أوباما، ولم يبق في جعبة أمريكا من سهام ترمي بها ثورة الشام بعد تركيا سوى أن تلقي بثقلها هي نفسها فيها، وهذا أمر قد جربت مثله أمريكا في عهد أحمقها بوش، ولقيت من بأس المسلمين ما لقيت، وقد تكون تتحسب له في عهد أحمقها القادم أو حمقائها القادمة، وسترى أمريكا حينها في الشام عقر دار الإسلام ما لم تره في غيرها والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.
رأيك في الموضوع