أستفتح مقالتي بخير الكلام من رب العباد: ﴿مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ﴾، ﴿لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ﴾، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِن تُطِيعُواْ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنقَلِبُواْ خَاسِرِينَ﴾. فإذا نظرتم يا أهل الشام إلى الهدنة التي صاغها الذين كفروا والذين يدعونكم إلى المفاوضات مع النظام المجرم، فإذا نظرتم من زاوية هذه الآيات فلن تنخدعوا أبدا، ﴿بَلِ اللَّهُ مَوْلاَكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ﴾.
فقد أجمعت دول الكفر على القضاء على ثورة الأمة في الشام، فوقف القتال الذي أعلنته لم ترد منه خيرا للمؤمنين وإنما خبالا وعنتا، فتريد أن تفسد ما صنعوه من خير بثورتهم على الطاغية وأن تشق عليهم حتى يفشلوا ويستسلموا ويقبلوا بما أرادته لهم دول الكفر وعلى رأسها أمريكا.
وفي ظل إجماعها تتنافس بينها على النفوذ والمصالح التي ستجنيها بعد ذلك. لأن ذلك من دوافع الصراع بينها. فقد استخدمت أمريكا الدب الروسي للحفاظ على نفوذها في سوريا وعلى عميلها طاغية الشام، لأنها تدرك أن روسيا قد احترقت بالعدوان الذي شنته على المسلمين فلن يكون لها نفوذ هناك، ولا تستطيع أن تكسب أي فريق فلا تخشاها، فعملت على حصر القضية بينها وبين روسيا لإبعاد أوروبا، حيث تخشاها أمريكا بسبب عراقة أوروبا في المنطقة، وقدرتها على كسب العملاء، ولم تشن العدوان المباشر على أهل سوريا، وطالبت بتنحي بشار أسد، فظهرت كأنها صديقة وأنها تساعدهم وتقبل لاجئيهم.
ولذلك تحركت الدول الأوروبية الثلاث فرنسا وبريطانيا وألمانيا لتشكل محورا في مواجهة الاتفاق الأمريكي الروسي وخاصة بعدما سوت مسألة بريطانيا لتضمن عدم خروجها من الاتحاد الأوروبي، فشهدت باريس اجتماعات لزعمائها يومي 3 و4 /2/2016 بجانب اجتماع وزراء خارجيتهم. وكذلك اجتماعهم ومعهم رئيس وزراء إيطاليا عبر الهاتف مع الرئيس الروسي، فذكرت مصادر فرنسية أن "العواصم الأوروبية الثلاث: باريس ولندن وبرلين عازمة على التوصل إلى موقف قوي ومشترك إزاء التطورات التي تعرفها الساحة السورية بشأن اتفاق وقف القتال. حيث ترى هذه العواصم أن روسيا والنظام السوري لا يحترمانها. وأنها تريد أن تضع النقاط على الحروف مع الرئيس بوتين". وإن "الأوروبيين قلقون من التساهل الأمريكي بشأن انتهاكات وقف الأعمال العدائية للاتفاق الذي توصلت إليه واشنطن وموسكو". بل هم قلقون من محاولة أمريكا عزلهم وحصر الأمر بينها وبين روسيا، ويريدون أن يفرضوا أنفسهم فأثاروا موضوع هذه الانتهاكات، وعرّضوا بالتساهل الأمريكي تجاهها، وأثاروا موضوع اللاجئين الذين تدفقوا على أوروبا، وبدأوا يطالبون بفترة انتقالية بدون بشار الأسد. ودعوا ولي عهد السعودية ابن نايف ووزير خارجيتها الجبير ومنسق المعارضة السورية حجاب للتأثير عليهم بإثارة تلك المواضيع وحثهم على الحديث بها، فتكلم الجبير عقبها بأن لا مكان لبشار أسد في سوريا، كل ذلك محاولة من أوروبا لتفرض نفسها وليكون لها دور فاعل في الشأن السوري ومؤثر في الموقف الدولي.
وعندما قال زعيما فرنسا وبريطانيا عقب اجتماعهما: "إن سوريا بحاجة إلى فترة انتقالية لا مكان فيها لبشار أسد"، رد عليهما دي ميستورا عميل أمريكا والمبعوث الدولي لسوريا قائلا: "إن مستقبل الرئيس بشار أسد يجب أن يقرره السوريون أنفسهم ولا يجب أن يقرر سلفا". فمعنى ذلك أن أمريكا تريد أن تجري المفاوضات بين ما يسمى بالمعارضة السورية وبين النظام السوري من دون البحث في مصير الأسد، وجعل ذلك يتقرر بعد تنازل المعارضة وقبولها بما تمليه عليها أمريكا وبعد أن يثبت وقف إطلاق النار وتخمد الثورة وتعمل على تصفية بقية الثائرين الذين يعتبرون إرهابيين في نظرها، فتغدو الساحة خالية من أي تهديد للنفوذ الأمريكي عندها تنظر أمريكا في مصير عميلها بشار أسد.
إن أمريكا غير واثقة من تحقيق ذلك، فقام رئيسها أوباما يوم 25/2/2016 "وحذر من الإفراط في التوقعات فيما يتعلق باتفاق وقف الاقتتال في سوريا، وإذا تحقق بعض التقدم في سوريا فإن هذا سيقود إلى عملية سياسية لإنهاء الحرب الأهلية المستمرة منذ 5 سنوات هناك". فلا تريد تكرار أخطائها بالحديث عن مصير عميلها الآن، مثلما فعلت في محادثات يهود مع عملاء من فلسطين بشأن القدس واللاجئين فأجلت بحثهما حتى تثبت ما أنجزته من تنازلات العملاء. وقال وزير خارجيتها كيري يوم 24/2/2016: "لدينا الآن عملية تنسيق مع روسيا ونحن ملتزمون لإنجاح اتفاق وقف إطلاق النار، والأيام المقبلة ستكون حاسمة في تحديد ما إذا كنا قادرين على وضع حد لدوامة الاقتتال وسفك الدماء الذي يدمر سوريا، والمسار الدبلوماسي هو السبيل الوحيد لعزل المجموعات الإرهابية مثل تنظيم الدولة والنصرة وجلب الأطراف إلى طاولة المفاوضات". أي أن موضوع مصير الأسد مؤجل حاليا حتى تنجح في تثبيت وقف القتال وسوق المتنازلين من المعارضة إلى المفاوضات. وإذا لم ينجح ذلك فقد هدد كيري متوعدا: "هناك مناقشة مهمة تجري الآن بشأن خطة بديلة إذا لم ننجح على الطاولة". وسميت بخطة ب. فتناولتها صحيفة وول ستريت الأمريكية وذكرت أن "وزير الدفاع كارتر ورئيس الأركان دانفور ورئيس الاستخبارات برينان يقفون وراء الخطة والتي قد تجر أمريكا إلى الحرب في سوريا بشكل أعمق". وربما يعني ذلك أن أمريكا ستكثف غاراتها لتشمل جبهة النصرة وكل الجماعات الرافضة لوقف القتال وإجراء المفاوضات، ولا يستبعد أن تقود عملية برية بعدد قليل من جنودها لقوات عميلة في المنطقة كما تفعل مع عملائها من حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي حيث يقودهم 50 أمريكيا في قاعدة أقامتها في المنطقة التي سيطر عليها هذا الحزب. وأعلنت السعودية استعدادها لتنفيذ أوامر أمريكا وإرسال قوات برية إلى سوريا فقال وزير خارجيتها الجبير يوم 9/2/2016: "فكرة القيام بعملية برية جاءت من واشنطن، وأن أعضاء التحالف البالغ عددهم 65 دولة يتوقعون أن تتولى أمريكا قيادة العملية". وتركيا مستعدة لذلك دائما حيث تطالب بالتدخل، فورد في آخر حديث لرئيسها أردوغان مع أوباما يوم 19/2/2016: "دعمهما لاتفاق ميونخ لوقف القتال... وأن أهدافهم مشتركة فيما يخص الحرب ضد داعش". أي أن تركيا مثلها مثل السعودية مستعدة لدخول حرب برية بقيادة أمريكية.
وفي خدعة فريدة لا تنطلي على واعٍ يستثنون من وقف القتال جماعات يعدونها إرهابية لإنهاء الثورة، ولا يستثنون أحدا من ضرباتهم بتلك الذريعة حتى الذين تنازلوا وقبلوا بوقف القتال. فتواصلت الغارات الروسية وهجمات النظام عليهم. فأعلن جيش الإسلام على لسان ناطقه علوش يوم 5/3/2016 بأن "خروقات كبيرة من جهة النظام سمحت له بالاستيلاء على مناطق جديدة.. وحشود لاحتلال مناطق استراتيجية مهمة جدا" وفي تنازل وتخاذل كبيرَين قال علوش: "أما في حال تمت الهدنة فهي فرصة لإعادة بناء المجتمع والإنسان حيث حاولت آلة الحرب تدميرهما". فتساقط ولم يعد يذكر إسقاط النظام ولا حكم الإسلام بل كلمات مدورة لإرضاء الكفار!
إلا أن تخوف أمريكا على لسان رئيسها من الفشل في وقف القتال والمفاوضات وتهديد وزير خارجيتها بخطة ب في حالة الفشل واستعداد مواليها في السعودية وتركيا للقيام بعملية برية إذا طلبت منهم، يدل على أن أهل سوريا ما زالوا رافضين لهذه المؤامرة، ويؤكد ذلك قول رئيس لجنة المجلس الروسي للشؤون الدولية كوساتشيوف يوم 2/3/2016: "يواجه الاتفاق حول سوريا عقبتين أحدهما داخل سوريا..، أما العقبة الثانية فهي خارجية وتتعلق بوجود معارضة لتلك الاتفاقات داخل الولايات المتحدة"، وأشار إلى خطة ب التي يعدها العسكريون الأمريكان. ففهم أن ما يعده هؤلاء عقبة ثانية، بل ما يعدونه هو للقضاء على العقبة الأولى وهم أهل سوريا الرافضون بشكل جماعي للاتفاق كما أشار في حديثه.
وهل يعقل أن أهل سوريا، أهل صفوة بلاد الله، الذين كسروا حاجز الخوف، وقدموا التضحيات الجسام، وفضلوا الموت على المذلة، وبلغ الوعي العام لديهم درجة عالية، وأعلنوا أن ثورتهم لله، وقائدهم محمد e، والطيب الثابت فيهم كثير، والخبيث المتنازل فيهم قليل، وفيهم وبينهم رائدهم حزب التحرير الحزب المبدئي الذي يتمتع بالوعي الفكري والسياسي إلى أعلى الدرجات يوجههم الوجهة الصحيحة ويحثهم على الثبات والصبر ويوعيهم على المؤامرات التي تحاك ضدهم، وقد نجح بإقناعهم بالدعوة إلى إقامة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة ورفع راية رسول الله e، هل يعقل أن يستسلموا ويقبلوا ببقاء النظام العلماني والنفوذ الأمريكي؟! لا، وألف لا، بإذن الله.
رأيك في الموضوع