لم يكد حبر الإعلان الأمريكي الروسي المشترك عن خطة لما أسموه وقف الأعمال العدائية يجف حتى بادر وزير الخارجية الأمريكي بالقول أمام لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ في جلسة بشأن طلب الميزانية السنوية للوزارة "ربما يفوت الأوان لإبقاء سوريا موحدة إذا انتظرنا فترة أطول" (رويترز 23/2/2016)، وعلى الرغم من أن الحديث عن تقسيم سوريا ليس جديدا في أروقة الدبلوماسية الأمريكية إلا أن إشارة كيري إليه كأحد الخيارات المطروحة أو المحتملة يعد أول إشارة رسمية علنية له، وهو إن كان قد ورد في سياق التحذير من عواقب فشل اتفاقية الهدنة إلا أن عرض إدارة أوباما وإعلانها التوافق على الهدنة صاحبه تشكيك في احتمالية نجاحها عمليا.
فقد صرح جوش إيرنست المتحدث باسم البيت الأبيض في إفادته اليومية للصحفيين تعليقا على إعلان الهدنة بقوله: "إن الخطوة - وإن كان من الصعب تنفيذها - توفر "فرصة سانحة" والولايات المتحدة ستحاول انتهازها". (رويترز 22/2/2016)، كما أن كيري في معرض شهادته أمام لجنة العلاقات الخارجية قال "أنا لن أقول بأن هذه العملية من المؤكد أنها ستعمل وذلك لأنني لا أعرف" (موقع تشارلوت أوبزيرفر 23/2/2016) حتى أوباما في خطابه الإذاعي الأسبوعي في 27/2/2016 قال: "إن هناك الكثير من الشكوك في احتمال نجاح اتفاق الهدنة المؤقتة الذي توصلت إليه الولايات المتحدة وروسيا مؤخرا". (الجزيرة.نت 27/2/2016).
وهذا التشكيك الأمريكي بنجاح الهدنة يدل على أن أمريكا تريد أن تستدرك في حالة الفشل المحتمل للهدنة، حتى لا يحسب فشلها فشلا للإدارة الديمقراطية التي شارفت على الانتهاء، لذلك فهي تروج لفكرة أنها تعتبرها خطوة لا بد منها حتى لو فشلت الآن، فسيكون بإمكانها البناء عليها لاحقا، لأنها اتخذت من الهدن أسلوبا لتنفيذ خطتها في سوريا فقد كانت "تمهد لهدنة كبيرة منذ أن بدأ مسلسل الهدن الصغيرة من هدنة كوفي أنان في 10/04/2012، وهدنة الأخضر الإبراهيمي، إلى هدنة حي برزة، وهدنة حي القابون، ثم هدنة بلدتي كفريا والفوعة بريف إدلب الشمالي، وبلدتي الزبداني ومضايا بريف دمشق ثم إلى هدنة حي الوعر في كانون الأول/ديسمبر 2015، حيث باركها الرئيس الأمريكي ودعا إلى توسيع الهدنات بصورة أكبر، وكأنه كان من حينها يخطط للهدنة الكبيرة الحالية، فقد صرح في ذلك الوقت معلقاً على اتفاق هدنة الوعر: (... وهو نموذج لاتفاقات هدنة تطبق في مناطق بعينها قال أوباما إنها يمكن أن تنفذ في سوريا بمعدل أكبر...) (رويترز، 9 كانون الأول/ديسمبر...)" (النشرة الصادرة عن حزب التحرير في 24/2/2016).
ومشروع الهدن الصغيرة الذي يفضي إلى هدنة كبيرة يحمل في طياته أيضا بذور التقسيم، فأحد مخرجات هذه الهدنة تشكيل لجنة لترسيم خطوط وقف إطلاق النار، فقد جاء في الإعلان (أن الولايات المتحدة وروسيا الاتحادية ستعملان معا، ومع الأعضاء الآخرين في مجموعة عمل وقف إطلاق النار، حسب الاقتضاء ووفقا لقرار المجموعة الدولية لدعم سوريا الصادر يوم ١١ شباط/فبراير ٢٠١٦، لتحديد الأراضي الواقعة تحت سيطرة "داعش" و"جبهة النصرة" وأي منظمات إرهابية أخرى يحددها مجلس الأمن، والتي هي مستثناة من وقف الأعمال العدائية...) كما ورد أيضا فيه (التوقف عن كسب أو السعي إلى كسب أراض من الأطراف الأخرى المشاركة بوقف إطلاق النار.) (الجزيرة.نت 23/2/2016)، وهذا التجميد لمناطق السيطرة يقابله بقاء العملية العسكرية التي تقوم بها أمريكا وروسيا في سوريا فاعلة بحيث تتسع دائرة المناطق التي يسيطر عليها النظام بحجة أن الهدنة لا تشمل مناطق الإرهابيين التي لا تنحصر بمناطق سيطرة تنظيم الدولة وجبهة النصرة فقط بحسب الهدنة بل تشمل مناطق سيطرة الرافضين للتسوية، كما أن روسيا ومنذ بدء عمليتها العسكرية في سوريا وهي تقول إنها تستهدف الإرهابيين فقط!
وقد عادت روسيا لاستئناف ما كانت تقوم به بعد يوم واحد فقط من بدء الهدنة؛ فقد قال المرصد السوري لحقوق الإنسان (إن طائرات حربية هاجمت 6 بلدات سورية في الجزء الغربي من محافظة حلب اليوم الأحد بعد يوم من بدء سريان اتفاق وقف الأعمال القتالية، وأفاد المرصد أن البلدات التي استهدفها القصف خالية من عناصر "تنظيم الدولة" و"جبهة النصرة"... مدير المرصد رامي عبد الرحمن أشار يوم الأحد الماضي إلى "تنفيذ طائرات حربية لم يعرف إذا كانت روسية أم تابعة لقوات النظام غارات عدة على 6 بلدات في ريف حلب الشمالي والغربي، تتواجد جبهة النصرة في واحدة منها فقط". وتسببت هذه الغارات بمقتل شخص وإصابة آخرين بجروح. كما أفاد بتعرض قرية حربنفسة في ريف حماة الجنوبي والتي تسيطر عليها فصائل مقاتلة لـ8 غارات جوية على الأقل صباحاً.) (هفينجتون بوست 28/2/2016)
وقد جاء في حديث أجرته "وكالة الأناضول" مع روبرت فورد كبير الخبراء في معهد الشرق الأوسط، وسفير أمريكا السابق في سوريا تعليقا على القرار الصادر عن "مجموعة الدعم الدولي لسوريا"، حول وقف العنف، وإيصال المساعدات إلى المناطق المحاصرة في سوريا "إن تطبيق القرار يعد أمرًا صعبًا، لأن بشار الأسد يقول إنه لن يتوقف عن محاربة الإرهابيين، والروس يصرحون بمواصلة قصفهم لحلب، ويعتبرون كل المقاتلين فيها إرهابيين، كما أن جبهة النصرة وتنظيم داعش، لن يتوقفا عن مواصلة الحرب أيضًا". وقلل فورد من إمكانية قيام بلاده بخطوة في المرحلة الراهنة، مستذكرًا فشل جهود الجامعة العربية في 2011، والمبعوث الأممي الخاص، كوفي أنان، في 2012، حول وقف إطلاق النار في سوريا والتوصل إلى حل سياسي. وأردف قائلًا، "تحقيق تقدم في المبادرتين المذكورتين كان مستحيلًا، والآن في 2016 سيحاولون مرة أخرى، لكن أعتقد، أن الحكومة السورية والمعارضة، ليسا على استعداد للمصالحة والتفاوض الحقيقي".
وأضاف فورد، إن "سوريا تبدو وكأنها متجهة نحو التقسيم والتفكك، حيث ستكون منطقة الأكراد في شمال شرقي البلاد، ومنطقة بيد داعش في الجنوب الشرقي، وفي الغرب منطقة للحكومة السورية، ومنطقة رابعة ستكون خاضعة لسيطرة المعارضة في الأجزاء الأخرى".) (الأناضول 13/2/2016)
وكان فورد قد بعث برسالة لوزير الخارجية الأمريكي جون كيري (عبّر فيها عن الحاجة إلى قوة مراقبة دولية مستقلة للإشراف على وقف إطلاق النار المحتمل في سوريا. وأثنى السفير المتقاعد، على جهود كيري في سبيل توحيد المعارضة السورية ومحاربة تنظيم الدولة، وحذر من أن "عدم القيام ببعض الإجراءات الجوهرية، ستوصل القضية السورية إلى طريق مسدود". ولفت إلى أن النظام والمعارضة سبق واتفقا على وقف لإطلاق النار رعته الجامعة العربية والأمم المتحدة، لكنه انهار بسرعة لعدم وجود عقوبات كافية ورادعة للطرفين، مشيراً إلى ضرورة وجود آليات تضمن استمرار وقف إطلاق النار في حال تطبيقه.) (القدس العربي 10/12/2015)، ويبدو أن سياسة أمريكا للوصول إلى مبتغاها في سوريا تتمثل في إجراءات الخطوة خطوة بحيث تسير بالجميع باتجاه القناعة بحل وحيد؛ القبول بنظام الأسد أو تقسيم سوريا إلى أجزاء متناثرة لا قيام لها بنفسها ويكون لنظام بشار فيها حصة الأسد أو ما سماه سوريا المفيدة!
هذا ما يمكر به الكفار أو لعله بعض مكرهم إلا أننا على ثقة من وعد ربنا وحكمه حيث حكم سبحانه وهو أحكم الحاكمين: ﴿وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ﴾ فسوريا الشام ستئول بإذن الله إلى الحال الذي وصفها به النبي صلى الله عليه وآله وسلم لتكون عقر دار الإسلام إن لم يكن ذلك في الحال فهو واقع في المآل لا محال ﴿وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾.
رأيك في الموضوع