وصلت طلائع القوات الفرنسية الخاصة إلى بنغازي لمساندة قوات اللواء المتقاعد خليفة حفتر، وتقديم الدعم لها في عملياتها العسكرية في ليبيا، وأُعلِن عن أنّ هذه القوات موجودة حاليا في مكان مخصص لها في قاعدة (بنينا الجوية) الواقعة شرق بنغازي، وهي القاعدة العسكرية الأهم لقوات حفتر، ونقلت الأنباء أنّه تمّ تشكيل غرفة عمليات مشتركة للتنسيق بين القوات الفرنسية وقوات حفتر يقودها العقيد سالم العبدلي.
وأعلنت فرنسا أنّ تدخّلها العسكري هذا يهدف إلى: "منع تنظيم الدولة من التمدد في مدينة سرت، وتوقيف تهديده للمنشآت البترولية"، ووصفت التحرّك بأنّه: "سيكون برياً وجوياً على حدّ سواء، وأنّها ستُشارك فيه دول أوروبية عدة بقيادة إيطالية، وبدعم لوجستي أمريكي" وقالت بأنّها: "تُحاول جرّ بريطانيا إلى صفّها، بالإضافة إلى دول الخليج وشمال أفريقيا (الجزائر وتونس ومصر) في مخططها للتدخل العسكري"، وأوضحت بأنّ: "الإعداد جار على قدم وساق بعد أن بات التنظيم الإرهابي يشكل تهديداً جدياً لأوروبا" على حد قولها.
وتُظهر فرنسا اهتماماً زائداً بليبيا بزعم أنّها الدولة التي تُعدّ البوابة الرئيسية لدول غرب أفريقيا خاصة دولة النيجر التي تُعد رابع منتج لليورانيوم في العالم، وحيث تملك فرنسا مناجم كثيرة فيها، وتهتم بحمايتها، إضافةً إلى وجود أطماع لفرنسا في ليبيا نفسها، من خلال سعيها للاستحواذ على استثمارات كبيرة فيها، وللحصول على أفضلية تجارية واسعة في سوقها المتعطش للسلع الأجنبية، فهناك العديد من الاتفاقات - منذ أيام الغزو الفرنسي البريطاني الأخير لليبيا - ما زالت قيد التفاوض بين فرنسا وبين الحكومات الليبية المتعاقبة في مجالات النفط والملاحة الجوية وغيرها.
وأمّا بريطانيا فما زالت مُتردّدة في المشاركة العسكرية في ليبيا، وتُراهن على العملية السياسية، وبحسب تقرير لصحيفة ديلي تلغراف فإنّ التدخل العسكري "ينتظر حكومة وحدة وطنية شاملة في البلاد". وكان السفير البريطاني إلى ليبيا بيتر ميليت قد قال إن بلاده: "على استعداد للتدخل العسكري في ليبيا لمكافحة الإرهاب، بمجرد طلب حكومة الوفاق الوطني الليبية المنتظرة ذلك".ونفى وزير الخارجية البريطاني فيليب هاموند عزم بلاده نشر قوات قتالية في ليبيا، مؤكدا سعيها لتقديم الدعم الاستراتيجي، والدعم في مجال الاستخبارات لحكومتها الجديدة.
لكن ومع هذا النفي فهناك معلومات مناقضة له أوردتها صحيفة الصنداي تايمز البريطانية في تقريرٍ رجّحت فيه وقوع تدخلٍ عسكريٍ بريطاني بتزكية - من حكومة وحدة وطنية أو بدونها - حيث كشف التقرير عن أنّ: "قوات بريطانية وفرنسية وأمريكية، مضافة لقوات العمليات الخاصة الموجودة أصلاً في ليبيا تعمل على تحديد أهدافٍ محتملة لعمليات جوية ضد تنظيم (داعش)، وأنّ ستة ضباط من سلاح الجو البريطاني انضمّوا لضباط استخبارات ودبلوماسيين من المملكة المتحدة، وإلى أفراد عسكريين أمريكيين وفرنسيين في مهمةٍ استطلاعية بالقرب من مدينة طبرق الساحلية الليبية لإعداد بنك الأهداف التي سيتم قصفها، ولتحديد مواقع القوات الصديقة حتى لا تتعرض - خطأً - للعمليات التي سوف تستهدف تنظيم (داعش)" وذلك كله نقلاً عن مصدر عسكري بريطاني.
وأمّا موقف إيطاليا - وهي الدولة المستعمِرة السابقة لليبيا والأقرب جغرافياً إليها - فقد قال رئيس وزرائها ماتيو رينتسي إنّ بلاده: "وافقت على السماح بانطلاق طائرات أمريكية مسلحة بدون طيار من قاعدة جوية في صقلية للقيام بمهام (دفاعية) ضد تنظيم الدولة الإسلامية في شمال إفريقيا، وإنّها ستقيّم كل حالة على حدة"، وكانت إيطاليا قد أعربت عن استعدادها لقيادة تدخل عسكري في ليبيا، لكن بشرط وجود تفويض من الأمم المتحدة، وبطلب من حكومة وحدة وطنية ليبية.
وأمّا أمريكا فقد عبّر وزير خارجيتها جون كيري عن موقفها فقال: "في ليبيا نحن على وشك تشكيل حكومة وحدة وطنية.. وهذا البلد يمتلك موارد، وآخر شيء في العالم تريدونه هو خلافة وهمية، يمكنها الاستفادة من عائدات نفطية بمليارات الدولارات"، ونُقل عن رئيس الأركان الأمريكي الجنرال جوزيف دانفورد قوله يوم الجمعة الماضي للصحفيين: "إنهم يفكرون في تنفيذ عملية عسكرية حاسمة ضد التنظيم في ليبيا، حيث يُقدر عدد مسلحيه هناك بثلاثة آلاف مقاتل"، وقال: "إننا نبحث قرار العملية العسكرية ضد داعش بالتزامن مع العملية السياسية، لقد كان الرئيس أوباما واضحاً في تفويضه لنا لاستخدام القوة العسكرية".
هذه هي خلاصة مواقف الدول الغربية الرئيسية الأربع المعنية في ليبيا وهي: أمريكا ا
وفرنسا وبريطانيا وإيطاليا، وتتفق هذه المواقف بالإعلان عن ضرورة تدخلها في ليبيا لمواجهة تنظيم الدولة، ولمكافحة تهريب اللاجئين من سواحلها الطويلة إلى أوروبا، حيث تحوّلت ليبيا إلى بوابة لعشرات الآلاف من المهاجرين الراغبين في الوصول إلى أوروبا، ولكنّها تختلف بكيفية التدخل وشكله، والأطراف المحلية المرشحة للتعاون معها عند وقوع ذلك التدخل.
فيُلاحظ مثلاً أنّ مواقف بريطانيا وإيطاليا والاتحاد الأوروبي متقاربة إلى حدٍ ما، وتدعو إلى عدم التسرع في التدخل حتى يتم تحضير حكومة الوحدة الوطنية التي قد تُغني عن التدخل، أو تُضفي عليه صبغةً قانونية، بينما نجد أنّ فرنسا متعجلة، فقامت بإرسال قوات لمساعدة خليفة حفتر رجل أمريكا في ليبيا، وتعمل جاهدةً على حشد الأوروبيين، وجرّهم للتدخل في ليبيا في أقرب وقت، فهي تُحاول إثبات نفسها، وإبراز وجود متقدّم لقواتها على الأرض، وإن بدا أن ذلك يخدم أمريكا ظاهريا.
أمّا أمريكا ومن خلال تصريحات مسؤوليها فنجد أنّها لا تأبه بوجود حكومة الوحدة الوطنية إلا كلاماً، ولا تهتم كثيراً بتجميع القوات من الدول المعنية، وجلبها إلى ليبيا، بقدر اهتمامها بإيجاد قواعد ومرافق ثابتة لها، تنطلق منها طائراتها للقيام بغارات بمفردها، بالوقت الذي تشاء، وبالكيفية التي تُريد، فهي تعتمد على نشر قواتها فقط، وتسعى لتوفير المرافق الدائمة لها في ليبيا وفي جوارها.
وأمريكا تُركّز على اختراق جيوش الدول المجاورة لليبيا، وبناء جدران على حدودها مع ليبيا، يكون لها من خلال تلك الأعمال وجود دائم في هذه الدول، وبمعنى آخر تبحث أمريكا عن استعمار عسكري ثابت ودائم لها في المنطقة، بينما يغلب على بريطانيا العمل على استمرار تبعية الوسط السياسي في ليبيا لها، وأمّا فرنسا فتعمل على جبهتين، فهي تُحاول أن تُشارك أمريكا في حضورها العسكري من جهة، وتُشارك بريطانيا في نفوذها السياسي من جهةٍ أخرى، في حين إنّ إيطاليا تُركّز فقط على مصالحها النفطية والاقتصادية، ولا مانع لديها من مساعدة الدول الثلاث بما يُطلب منها إذا ضمنت تلك المصالح.
لقد كشفت هذه الدول عن حقيقة نواياها الاستعمارية وعن أطماعها بالنفط الليبي، فهي تتذرع بالقول إنّ تنظيم الدولة يسعى للسيطرة على مدينة سرت الساحلية، ويُحاول التمدد باتجاه منطقة (الهلال النفطي) شمال شرقي ليبيا، وهي المنطقة التي يوجد فيها ما لا يقل عن 60 % من الثروة النفطية الليبية.
لذلك كلّه كان التنسيق بين هذه القوى الأربع في هذا الموضوع ضرورة من ضرورات الحياة السياسية اليومية، فقد نقلت صحيفة تايمز البريطانية عن مصادرها الموثوقة: "وجود محادثات مكثفة تجريها واشنطن ولندن لإقناع الفرقاء الليبيين باستقبال القوات البريطانية... وتزايد الضغوط الأوروبية والأفريقية لتسريع تشكيل حكومة السراج"، وأفادت الصحيفة بأن: "الحكومة البريطانية ووزارة الدفاع الأمريكية (البنتاجون) دخلتا في محادثات لإقناع ليبيا باستضافة ما لا يقل عن ألف جندي بريطاني لتعزيز قواتها في معركة مع تنظيم داعش، الذي يبعد معقله فى مدينة سرت الساحلية مسافة 200 ميل عن أوروبا".
إنّ كثرة المشاورات والتخطيط لغزو ليبيا بين الأمريكيين والأوروبيين يكشف عن مدى عمق الخلاف بين هذه القوى على ليبيا، بل يكشف عن حقيقة الصراع فيما بينها من أجل السيطرة على الأوضاع فيها.
والخط السياسي العريض الواضح في هذا الصراع يُشير إلى أنّ بريطانيا ومعها الأوروبيين، وبفضل سيطرة رجالها المطبِقة على العاصمة الليبية والغرب الليبي كله من خلال المؤتمر الوطني العام (البرلمان السابق)، وكذلك من خلال سيطرتها على ما يُقارب نصف الوسط السياسي في بنغازي وبرلمان طبرق، تسعى إلى محاولة جمعهم في حكومة وحدة وطنية لتفويت الفرصة على أمريكا، وقطع الطريق على أي تدخل عسكري أمريكي كبير في ليبيا بحجة مقاتلة تنظيم الدولة.
أمّا أمريكا وبسبب عدم وجود وسط سياسي كاف لها في ليبيا فهي تعمل على دعم جنرالها المتقاعد خليفة حفتر، وعلى إشعال الحروب بين الليبيين بحجة مقاتلة التنظيم، فتُركّز على الأعمال العسكرية لتبرير التدخل، وتستمر في تخريب كل الجهود السياسية الأوروبية الرامية إلى توحيد صفوف الليبيين في حكومة وحدة وطنية، وتعمل على إفشال تلك العملية السياسية التي قطعت شوطاً كبيراً خاصةً بعد مؤتمر الصخيرات، وذلك من أجل فرز مستوى سياسي جديد موالٍ لها في بنغازي وطبرق بتأثير تلك الأعمال العسكرية، بحيث يتعاظم هذا المستوى الموالي لها، ويستمر في مناكفة جماعة الإنجليز والأوروبيين في العاصمة طرابلس، حتى ولو أدّت المناكفة بينهما إلى تقسيم ليبيا إلى دولتين.
فأمريكا إذاً مصمّمة على تخريب الحل السياسي، ومستعدة لاستغلال تمدّد تنظيم الدولة - والتي كانت هي السبب في تمدّده أصلاً - أسوأ استغلال بُغية تصعيد الصراع، وتأجيجه، وتوسيعه، وتحويل ليبيا إلى دولة فاشلة بالمفهوم الغربي، لتسهيل السيطرة عليها، وأخذها من أيدي الأوروبيين.
.
رأيك في الموضوع