إن لبنان عندما أعلن كدولة لم يكن ذلك طبيعيا، لأنه ليس مؤهلا لأن يكون دولة، ولذلك لم يصبح دولة بالمعنى الحقيقي حتى اليوم فبقي مسرحا للصراع وساحة للاقتتال، فكان للمستعمر الفرنسي الذي أسسه ككيان مآرب؛ منها أن يجعله جسرا لنقل الحضارة الغربية إلى المسلمين في المنطقة. وعندما انتهت مهمته هذه التي أطلق عليها رسالة لبنان، عملت الدول المستعمرة على دمجه في قضايا المنطقة، وعلى رأسها قضية فلسطين. وقد أقيم فيه نظام علماني فاسد مبني على أساس المحاصصة الطائفية، فوضعت في أسّه بذرة الفساد ليصبح معرضا للاضطرابات والانفجارات والتناحرات كما حدث فعلا، فكل فريق يلجأ إلى ركن خارجي يؤويه ويسنده ويقتات منه ليعيش وبالتالي ينفذ له سياساته. وأصبح مكانا للصراع الدولي وخاصة بين فرنسا وبريطانيا وأمريكا وأتباعهم الإقليميين والمحليين.
واتبعت أمريكا أسلوب فرض وصاية إقليمية على لبنان لتولي شؤونه. ففي عهد عبد الناصر فرضت عليه وصاية مصر، ومن ثم وصاية النظام السوري حتى مصرع الحريري. وأدخلت إيران فيه ليصبح لها حزبا تابعا لها ولتشتري ذمما أخرى تنسق مع هذا الحزب. وفي الوقت نفسه بدأت السعودية تلعب دورا مهما هناك، وخاصة منذ اتفاقية الطائف عام 1989، وصارت لها قوى مؤثرة محليا، وكانت سوريا والسعودية على عهد ملكها فهد متوافقتين بسبب تبعية البلدين لأمريكا. وعندما أصبح عبد الله عميل بريطانيا ملكا للسعودية عاد الصراع من جديد، إلى أن حصل توافق بين بريطانيا وفرنسا من جانب وبين أمريكا من جانب آخر على تشكيل الحكومات من حكومة سعد الحريري إلى حكومة ميقاتي وانتهاء بحكومة تمام سلام.
وعندما أصبح عميل أمريكا سلمان ملكا للسعودية بدأ بإحداث تغييرات في السياسة الداخلية والخارجية بشكل ملحوظ وسريع، ومنها ما يتعلق بلبنان.
فيجب فهم هذه المقدمات التي تتعلق بالتغيرات الأساسية هناك، حتى يتم فهم ما يجري في لبنان. فحدث أن أعلنت السعودية يوم 19/2/2016 أنها ألغت صفقة أسلحة للبنان كمساعدة بقيمة 3 مليارات دولار أقرتها عام 2013 على عهد ملكها عبد الله، وكانت ستشتريها من فرنسا، فكانت بمثابة تقوية للنفوذ الأوروبي في مواجهة النفوذ الأمريكي، حيث إن بريطانيا تستغل فرنسا دائما لتقوية نفوذها أو لحمايته من أمريكا التي تعمل على إزالة النفوذ الأوروبي أو إضعافه إلى حد كبير.
فقام سلمان بإلغاء هذه الصفقة ليوجه صفعة للنفوذ الأوروبي، وغطى على ذلك باتخاذ مواقف حزب إيران ذريعة، فورد في بيان إلغائها: "وإن المملكة تُقابل بمواقف لبنانية مناهضة لها على المنابر العربية والإقليمية والدولية في ظل مصادرة ما يسمى حزب الله اللبناني لإرادة الدولة..". وبدأت السعودية تنظر إلى لبنان ليس بوصفه دولة مستقلة بل بأنه بلد "تمت السيطرة عليه من قبل تنظيم إرهابي هو حزب الله" ومن ثم قامت بإغلاق بعض بنوكها في لبنان وحظر السفر على لبنانيين إليها وطرد آخرين منها ومن دول الخليج، ويظهر أنها تريد أن تلعب دورا مباشرا فيه وتتدخل في شؤونه، وليس كما كانت تفعل سابقا حيث تكتفي بتحريك الأدوات المحلية من الخلف.
إن السعودية تلعب دورا تمثل فيه المعارض لإيران وأتباعها لصالح أمريكا لتحتوي الناس الساخطين على إيران وأتباعها وطائفيتها وعنصريتها، فتنطلي الأمور على الناس غير الواعين سياسيا، وأمريكا تدرك أنها لا تستطيع تنفيذ كل سياستها بواسطة إيران، فلا بد من دول أخرى كالسعودية لتلعب هذا الدور وتخدع أهل السنة، فيرتموا في أحضانها ويأمنوا جانبها وتغريهم ببعض المساعدات كما هو حادث في لبنان وكما حدث في سوريا حيث التفت على بعض التنظيمات المقاتلة فخدعتهم بالمساعدات وجلبتهم إلى الرياض ليوقعوا على اتفاق فينّا الذي حضرته إيران بجانب السعودية ووافقتا على بنوده، ومنها الحفاظ على علمانية الدولة السورية ومؤسساتها وخاصة الأمنية الإجرامية والقائمين عليها.
فذلك تقاسم أدوار بين طرفين يسيران في تنفيذ الخطط الأمريكية لضرب النفوذ الأوروبي ولتشتيت قوى الأمة بين هذا الطرف وذاك لجعل الناس يدورون في دوامة الصراع لا يخرجون منه، فتتأخر نهضتهم ووحدتهم في ظل دولة خلافة راشدة على منهاج النبوة قادمة بإذن الله تهديهم سبل الرشاد. وإن استعار القتل واشتداد الفوضى لا يضير أمريكا التي تسعى لتحقيق مصالحها فقط ما دام تحت السيطرة، ولو قتل ملايين المسلمين كما حصل في أفغانستان والعراق وسوريا وغيرها، ولا يضير النظام السعودي الذي يخدم أمريكا للحفاظ على حكم العائلة واستئثارها بثروات البلاد، وكذلك إيران التي تسعى من خلال خدمتها لأمريكا تحقيق مصالحها القومية كما أعلنت.
فلبنان معرض للانفجار في كل لحظة بسبب الاحتقان الموجود فيه، وستعمل هاتان الدولتان على تطويقه حتى لا يخرج عن نطاق السيطرة. وعندما يستلزم الأمر التوافق في القرارات المهمة التي تريدها أمريكا تتفاهمان بواسطة أتباعهما ليتحقق ذلك. ولهذا رأينا المناقشات الجانبية يوم 22/2/2016 بين رئيس الحكومة اللبنانية تمام سلام ووزراء حزب إيران انتهت إلى التوصل لاتفاق على إعادة صياغة بند الاجتماع العربي ليصبح "التزام لبنان بالاجتماع العربي في القضايا المشتركة". وصدر بيان عن مجلس الوزراء بالإجماع بعد الجلسة الاستثنائية يشيد بالسعودية "لمساعدتها في إعمار لبنان ورعايتها مؤتمر الطائف الذي أنهى الحرب"، وأن "الحكومة طلبت من رئيسها القيام بجولة خليجية لتصويب العلاقات ابتداء من السعودية، واستنكر المجلس بشدة الاعتداء على السفارة السعودية في طهران". وقد رجع الحريري إلى لبنان بإيعاز سعودي ليقوم بتنفيذ الأوامر السعودية مباشرة ضمن الخطط الأمريكية ليمسك بزمام أمور تياره حتى لا تنفلت أو يحصل تجاوزات من البعض، فتؤدي إلى أضرار على هذه الخطط مثلما حصل عندما استقال وزير العدل ريفي فأنكر عليه الحريري ذلك. وكذلك فإن قوى الرابع عشر التي يتزعمها فيها أطراف لا تتبع السياسة الأمريكية، بل السياسة الأوروبية وتقوم هذه الأطراف بلعب دور خفي يشوش على السياسة الأمريكية.
وقد بقي منصب رئيس الجمهورية شاغرا في لبنان منذ سنتين، بعد غياب النظام السوري الذي كانت أمريكا تعطيه الدور الفعال في تنصيبه، وعلى ما يظهر سيبقى شاغرا إلى حين تتم تسوية الوضع في سوريا، إلا إذا حصل طارئ اقتضى إعلان رئيس فتوعز أمريكا إلى الطرفين بالتوافق. ودليل ذلك أن الطرفين رشحا شخصين محسوبين على سوريا. وأمريكا ليست متضايقة من هذا الوضع في لبنان فهو حاليا تحت السيطرة بواسطة إيران والسعودية وإلا لما تركته على هذه الحال مدة سنتين.
ولا يجوز أن يدرس الأمر بمعزل عن الوضع في سوريا الذي يعتبر لبنان جزءا منها، خاصة وأن حزب إيران طرف في الصراع هناك بجانب سيدته إيران حيث بدأ يسفك دماء المسلمين في سبيل الشيطان الأكبر أمريكا ليحافظ على نظام بشار أسد العلماني البعثي التابع لها، وهذا له تبعاته فيما بعد. فعندما تتخذ السعودية هذه المواقف تخدع البعض من الثائرين ومن الناقمين على إيران وحزبها، فيتوجهون نحو السعودية للحماية ولطلب المساعدات، فتجعلهم تحت تأثيرها، وخاصة أنه ستجري صياغة للنظام السوري إذا ما تمكنت أمريكا من ذلك (لا قدر الله) فيجب أن تتواجد السعودية هناك كما تتواجد في لبنان لتلعب الدور لصالح أمريكا، وكما تلعبه في اليمن فتظهر أنها تقف في وجه الحوثيين أتباع إيران، ولكنها تنفذ الخطة الأمريكية لإنقاذهم ولإشراكهم في حكم اليمن وإسقاط النفوذ الإنجليزي منه.
فالذي يحبط كل هذه الخطط هو إيجاد الوعي لدى الناس حتى لا ينساقوا مع هذا التيار أو ذاك، وأن ينأوا بأنفسهم عن اتباعهما وتأييدهما، وأن يعملوا مع المخلصين العاملين على إسقاط النظام العلماني في سوريا ودمج لبنان معها في بلد واحد كما كان ليكون نقطة ارتكاز لإقامة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة ونقطة انطلاق لتوحيد كافة البلاد الإسلامية وقاعدة انطلاق لتحرير فلسطين، وطرد المستعمرين الصليبيين من بلاد المسلمين.
رأيك في الموضوع