خرجت مارين لوبان زعيمة الجبهة الوطنية (اليمين المتطرف في فرنسا) بتصرحيات نارية مناهضة للهجرة تربط فيها بين الاعتداءات الجنسية في كولونيا والتي اتهم فيها لاجئون من الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وتهديد حقوق المرأة. وقالت لوبان "أخاف أن تكون أزمة الهجرة بداية لنهاية حقوق المرأة"، فازت بهذا التصريح ولحقت بالركب لتركب فوق موجة مناهضة اللاجئين وتجعل من اللاجئ من سوريا الفارّ من حمم الطغاة مصدر تهديد وخطر حقيقي لا يمكن تجاهله. وتكررت هذه التحذيرات والصيحات في العالم الغربي وبلغت هذه النبرة ذروتها في كاريكاتور تشارلي إيبدو الصحيفة سيئة الذكر حيث صورت مصير الطفل الكردي ألان على أنه سيكون متحرشاً بالنساء الغربيات.
لم تأت هذه التصريحات من فراغ؛ فنظرة اليمين المتطرف للإسلام والمسلمين نظرة شعوب مستعمِرة لأهل المستعمرات يهيمن عليها الاستعلاء والتحقير ولا يرون فيهم سوى شعوب رجعية متحجرة لا تتواكب مع سمو القيم الغربية. لم ير اليمين المتطرف في الدول الغربية في هذه الأحداث سوى دليل على التباين بين الثقافة الغربية والثقافة الوافدة التي جلبها المهاجرون واتخذوا هذا الحدث كفرصة ذهبية للذم في الإسلام والمسلمين ونشر الأكاذيب والصور الملفقة وحشد الشهود الزور وسرد الروايات بشكل يستحضر أساطير المستشرقين بالأمس القريب. أخذوا الإسلام وأهله بأفعال من يلهث وراء الغرب ويسير وراءه شبرا بشبر وذراعا بذراع ولو أنصفوا لأعادوا النظر في النظام العالمي المهيمن وقيمه التي جعلت من كبريات المدن عواصم للاغتصاب فأصبح للاغتصاب وهتك الأعراض تصنيفات؛ من اغتصاب جماعي إلى الاغتصاب كأداة حرب وأصبح له مؤلفات ومتخصصون يكتسبون منه ومن علاج آثاره..
وقفت لوبان لتحاكم الإسلام العظيم بأفعال السكارى والمغيبين لتوهم الناس بأن العنف ضد المرأة سمة من سمات البلاد الإسلامية.. رمتنا بدائها وانسلت.. أنذكّرها بالمستويات الوبائية التي وصل لها العنف ضد المرأة وجرائم الاغتصاب التي لم تُستثن منها حتى المؤسسات العسكرية والإحصائيات المروعة التي تطل علينا بين الفينة والأخرى عن تفشي الاغتصاب في فرنسا وأمريكا!! هذا غيض من فيض وما خفي كان أعظم. ذكر تقرير الاغتصاب في أمريكا: تقرير للشعب "الاغتصاب من أقل الجرائم العنيفة تبليغا، في استطلاع واسع للنساء في أمريكا تقريبا امرأة من كل ست نساء بلغن عن جريمة اغتصاب تعرضن لها" (المركز القومي للضحايا 1992).
تتباكى لوبان على مكتسبات المرأة مما يدل على هشاشة هذه المكتسبات ابتداء، هل ناضلت المرأة عقوداً حتى تضيع مكتسباتها في سكرة ساعة وعبث حفنة من الوحوش البشرية؟ ثم لماذا توهم أتباعها أنها تتحدث عن كل النساء وتدافع عن حقوق المرأة بينما تعادي نساء سوريا وتدعم بقاء بشار الأسد وشبيحته الذين استباحوا الأعراض، ثم تؤيد التدخل الروسي وتغض الطرف عن قتل النساء والفتيات ببراميل مجرم سوريا وقذائف بوتين وكأن نساء سوريا لسن بنساء وكأن نون النسوة استأثرت بها المرأة الفرنسية البيضاء!! لم يقتصر هجوم لوبان على حفنة من السكارى ممن انحطوا لدرك البهائم بل لاحقت كل المهاجرين إناثا وذكورا فطرحت فكرة الأولوية الوطنية لتقدم الحاصلين على الجنسية الفرنسية على الآخرين، حتى وإن تساووا في المؤهلات والقدرات مع الفرنسيين وكانت إقامتهم شرعية. كما طالبت بتمييز الفرنسيين في السكن والعمل والمساعدات الإنسانية ولعبت على وتر الاستئثار بالوطن وخيراته وخاطبت في الجماهير حب البقاء.
والمفارقة الكبرى في هذا الموضوع أن مارين لوبان لا تناصر قضايا المرأة الفرنسية ومعروف عن حزبها أنه يقدم دور الرجل على المرأة ويُتهم من قبل النسويات بمعاداة المرأة والتنصل من فكرة المساواة. لوبان لا تدافع عن مطالب النسويات ولا تلتزم عادة بحماية المكتسبات التي خرجت الآن لتحذر من تهديد اللاجئين لها. الغرض ليس حقوق المرأة بل معاداة الإسلام والمسلمين، وقد طالبت في السابق بتوسيع دائرة تطبيق قانون الرموز الدينية والتضييق على المسلمات ومنع الحجاب، وليس فقط النقاب، ومراقبة المؤسسات الإسلامية وغيرها من السياسات التي من شأنها أن تكبل المرأة المسلمة في فرنسا بقيود الجهل والفقر والعزلة عن المجتمع وتحرمها من أبسط الحقوق.
لم تأت هذا التصريحات كمفاجأة فاليمين السياسي في الدول الغربية ديدنه البحث عن فرص للكسب السهل وخوض المغامرات التي تجلب الأنظار وتستقطب الناقمين على الأنظمة الرأسمالية التي ضيعتهم وتحرك المهمشين في المجتمعات الغربية. إنها أعمال سياسية محاطة باليأس والفشل السياسي تجعل من الكراهية مشروعاً سياسياً قائماً على حماية الثروات من الأجانب بينما يتركونها في يد الرأسماليين من بني جلدتهم لينهبوها وتتخذ العنصرية رابطا مقدسا مآله تدمير المجتمعات ومحاكم التفتيش ومعسكرات القمع.
لقد أعلنت مارين لوبان بملء الفم ودون أي خجل أنها "تخاف أن تكون أزمة الهجرة بداية لنهاية حقوق المرأة" بينما كان قصدها "أود أن تكون أزمة حقوق المرأة بداية لنهاية أزمة الهجرة". لقد خلق اليمين المتطرف من الأحداث الإجرامية التي تعرضت لها النساء فزاعة يجلبون بها المزيد من المؤيدين لأحزاب الكراهية التي تفتقر لأي مشروع سياسي مقنع وتصعد على أكتاف النعرات الهابطة وتقسيم المجتمعات وحملات التشويه الرخيصة التي تحصد المؤيدين في البلاد الغربية. "أظهر استطلاع أجرته مجموعة "دويتشلاند تريند" بألمانيا نشر اليوم الجمعة أن الألمان أصبحوا أكثر خوفا من اللاجئين، وأقل ثقة في المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل التي سهلت دخولهم، بعد اعتداءات التحرش" (الجزيرة 15/1/2016).
لقد خرج الغرب من وبال الحرب العالمية الثانية وهو يعض أصابع الندم ويقول "لن يحدث أبداً ولن نكرر الأخطاء ولن نسمح بعودة النازية والفاشية ونشر الكراهية"، فماذا حدث؟
رأيك في الموضوع