(مترجم)
يبدو أن الاقتصاديات الغربية لا تعاني بشدة فقط من نمو بطيء وديون هائلة ونظم مصرفية غير قابلة للاستمرار. وإنما تعاني أيضًا من عدم قدرة الاقتصاديين التقليديين على فهم الاقتصاد وما يجعلها تعمل بصورة طبيعية. فمن الصعب وضع وجهة نظر حقيقية صحيحة للاقتصاد. وقد أصبح من الحقائق المسلم بها أن الاقتصاديين لن يكون في إمكانهم أبدًا تحقيق ذلك، سواء التنبؤات الاقتصادية التي يتبنى على أساسها السياسيون السياسات المتعلقة بالضرائب والإنفاق، أو توقعات الركود (التي نادرًا ما توقعوا حدوثها بما فيها الانهيار الاقتصادي الهائل في عام 2008)، وحتى وجهات النظر المتشائمة حول ما سيحدث لبريطانيا إذا تجرأت على التصويت لمغادرة الاتحاد الأوروبي - مع التنبؤات الاقتصادية المبنية على الخوف والتي لم تتحقق حتى الآن.
وقد قامت مجلة الإيكونوميست بنشر سلسلة تبحث في نظريات فشل الاقتصاديات الغربية الرئيسية. ولكن الأمر لا يتمحور فقط حول القدرة على توقع حدوث الانكماش الاقتصادي وكيف يمكن أن يؤثر على الحياة اليومية، بل الأمر هو عدم القدرة على شرح الكيفية التي يعمل بها العالم. أتذكر دراستي لمادة مدخل إلى الاقتصاد 101 في الجامعة قبل سنوات عديدة وصعوبة فهم "نظرية المنفعة الحدية"؛ "قيمة سلعة ما هي ما يمكن أن تنسبه لتلك السلعة في الوقت الذي تم فيه إشباع الحاجات". ومثال ذلك هو قياس قيمة الطعام بعد الشبع تمامًا عند الإفطار في شهر رمضان، بدلًا من إعطائه قيمة معينة قبل الإفطار! فمعظم النظريات تفشل في اجتياز اختبار الزمن، ولحسن الحظ أن نظرية المنفعة الحدية لم تستمر.
وقد سادت في السنوات الأخيرة الليبرالية الجديدة وما يعرف باسم "إجماع واشنطن". والليبرالية الجديدة هي وصف جامع يصف عصر التحرر من القيود والعولمة التي كانت بترتيب من المؤسسات الاقتصادية العالمية منذ أوائل الثمانينات. وقد تم تنفيذ هذه السياسة في الدول الغربية ذات النفوذ الأكبر في إعادة تنظيم القطاع المالي بينما يجري أيضًا تصديرها إلى دول العالم الثالث تحت إشراف صندوق النقد والبنك الدوليين.
وقد أصبحت الليبرالية الجديدة موضع التدقيق والتمحيص الكثيف في أعقاب الانهيار الاقتصادي العالمي عام 2008. ومنذ ذلك الوقت أصبح هناك عودة لدور الحكومات في إيجاد نهج أكثر تنظيمًا، وخاصة في القطاع المالي بالإضافة إلى عودة النهج الكينزي في أمريكا. وقد انبثقت المدرسة الكينزية جراء الكساد العظيم في ثلاثينات القرن الفائت. فقد عجل انهيار سوق الأسهم في نيويورك في خريف عام 1929 من أطول وأعمق كساد عالمي عانى منه العالم الحديث على الإطلاق.
لقد تدهور الاقتصاد ودخل في مرحلة ركود عميق وذلك على الرغم من أن المجتمع لم يفقد أيًا من ثرواته المادية. وقد كان جون ماينارد كينز، مؤسس هذه المدرسة، يعتقد أن النهج الاقتصادي الكلي التقليدي الجديد الذي يسمح للسوق بتصحيح نفسه بنفسه حتى يصل إلى مرحلة التوازن والذي لا تتدخل فيه الحكومات لم يكن صالحًا في سياق الكساد العظيم، وأنه لا بد من وجود شكل من أشكال التدخل الحكومي لمساعدة الانتعاش الاقتصادي. لذلك فإننا نرى أن السياسات الكينزية يتم العمل بها عند العجز في الإنفاق في الأوقات الصعبة وعند وجود فائض في المدخرات في السنوات الإيجابية، على الرغم من أن العجز وطباعة المال الورقي أصبحا الآن خارج نطاق السيطرة.
وتعتبر المدرسة النمساوية من بين المدارس البديلة التي أصبحت أكثر شهرة والتي أيدها عدد من المفكرين مثل موراي روثبارد ولودفيغ فون ميزس. وتدافع هذه المدرسة عن شكل متطرف من أشكال الاقتصاد الحر والذي يذهب إلى أبعد مما دعا إليه خبراء النقد من منع أي دور للبنوك المركزية، وبدلًا من ذلك فهي تدعو لعودة العمل بنموذج العملة الذهبية. وهناك الكثير من النقاش في داخل هذه المدرسة حول الكيفية التي ستقوم من خلالها البنوك المركزية بتحديد أسعار الفائدة والتي ستقوم بإدارة عجلة الاقتصاد.
النظرة الإسلامية
إن المقياس الاقتصادي في الإسلام لا يقوم على إجراءات تجريبية مثل معدل النمو الاقتصادي، وإنما يقوم على الحاجات التي لا بد من إشباعها (المأكل والملبس والمسكن) وتمكين الأفراد والشركات من الازدهار ضمن بيئة تنظيمية شاملة وفقًا لأحكام الشريعة.. وهو ما يجعل من السهل فهم الاقتصاد في الإسلام.
بعض المبادئ الاقتصادية الإسلامية الأساسية
- المشكلة الأساسية التي لا بد من علاجها هي التوزيع وليس الإنتاج.
- الملكيات واضحة تمامًا (ملكية عامة وملكية دولة ملكية فردية).
- وضوح الأحكام والقوانين؛ عدم التدخل ضمن إطار من الأحكام الشرعية الواضحة (الحرية ليست هي الأصل).
- تشجيع الإنفاق والاستثمار ودوران الثروة.
- الاستقرار النقدي والمالي.
- حماية الفقراء والمحرومين.
إن تداول الثروة في المجتمع بأكمله يعتبر ذا أهمية كبيرة، فالإسلام يشجع على الإنفاق والاستثمار ويحرم الكنز وهو ما يحافظ على زخم وسرعة الاقتصاد. يقول الله تعالى: ﴿كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ﴾ [الحشر: 7].
إن إحدى المشاكل الرئيسية في فكر الاقتصاد المعاصر تتمثل في كيفية تحفيز النمو الاقتصادي. ويمكن تعلم الكثير من النهج الإسلامي في منع كنز المال وتحريم تنميته عن طريق الربا، والضرائب...
إن أحكام الأموال في نظام الإسلام ومنها الزكاة والخراج تشجع على الاستثمار الكامل والتداول السريع للثروة. ونصاب زكاة النقود (2.5%) ثابت ولا يتغير أبدًا وقد حددته الشريعة الإسلامية بحيث لم تعد هناك حاجة لنماذج اقتصادية ذات معدلات مختلفة.
وتقوم خزانة الدولة (بيت المال) بإدارة العملة إدارة كاملة. وتلتزم الدولة بدعم جميع الأوراق النقدية الصادرة بشكل كامل (بالذهب والفضة)؛ ولا تسمح الشريعة بوجود البنوك الجزئية، والاحتياطات من الذهب والفضة مفتوحة بشكل كامل للمراجعة العامة.
ونتيجة لذلك، فلا تسمح الدولة بوجود "الصيرفة الاحتياطية الجزئية" ولا تتسامح مع تنمية المال (سياسات صنع المال من خلال السوق المفتوحة) من خلال المجموعات البنكية أو من خلال الدولة. ويتم التعامل مع المال كوسيلة للتبادل وبالتالي فهو ليس أداة مالية للمصالح المصرفية. وبناء على ذلك، فلا يمكن للبنك المركزي أن يقوم بخفض قيمة المال بشكل مستمر على حساب الناس مما يؤدي إلى عدم وجود أي تضخم نقدي.
وفي الختام،
لا شك في أن مفكري المدرسة النمساوية يمكن أن يكونوا مهتمين في شروط الإسلام في جعل الذهب والفضة أساس المال، وهو ما يضمن الاستقرار المالي على مدى الأزمان المتعاقبة. وإن التداول السريع للثروة يساعد في التوزيع العادل للثروة ويجعل مستويات الفقر منخفضة أو معدومة وهو ما سيكون موضع حسد الاشتراكيين اليوم. وعلى الرغم من أن شرط العيش في إحداها يعني منع توليد المال من أجل سد العجز سيجعل أتباع المدرسة الكينزية يعانون. فقد يلاحظ الليبراليون الجدد أن الاقتصاد الإسلامي هو دينامية خاصة في تعزيز التجارة (ضمن القواعد الصحيحة طبعًا) ودون الاعتماد على أحوال التجارة الاستغلالية (الاستعمار، وتخفيض قيمة العملة، وما يسمى تعاملات السوق "الحرة" التي تفضل الشعوب الكبيرة).
بقلم: جمال هاروود
رأيك في الموضوع