التضخم هو غلاء الأسعار ويعني ارتفاعها، حيث يقال ضج الناس من الغلاء ويقصد غلاء المعيشة أي ارتفاع تكاليفها. والغلاء فيه المبالغة والشدّة ومجاوزة الحد. والحد هنا هو مستوى أسعار السلع والخدمات الذي يسبّب تراجع القدرة الشرائية للأفراد، أي كمية السلع والخدمات التي يمكن شراؤها في حدود دخل الفرد والأسعار المتاحة.
أما أسباب التضخم فيمكن تقسيمها إلى قسمين؛ أسباب عرضية وأسباب هيكليّة.
أما الأسباب العرضية فهي ثلاثة:
1- التضخم الناتج عن الطلب: وهو ارتفاع مستوى الأسعار نتيجة لارتفاع مستوى الطلب العام نسبة للعرض العام في الأسواق. ويحدث هذا النوع من التضخم في فترات ارتفاع مستوى الاستثمار والتشغيل والأجور ما يؤدي إلى ارتفاع مستوى الطلب العام. كما يحدث أيضا في فترات شح السلع والخدمات.
2- التضخم الناتج عن التكلفة: ويحدث نتيجة لارتفاع تكلفة الإنتاج بسبب ارتفاع أسعار عوامل الإنتاج من قبيل ارتفاع الأجور أو ارتفاع أسعار الطاقة أو المواد الأولية وغيرها من تجهيزات الإنتاج. كما يحدث أيضا نتيجة لارتفاع الضرائب ونتيجة لاستيراد المواد الأولية وتجهيزات الإنتاج.
3- التضخم عن طريق النقد: ويحدث في الفترات التي تتصف بالإفراط في إصدار النقد ما يؤدي إلى ارتفاع الكتلة النقدية بنسبة تفوق ارتفاع إنتاج السلع والخدمات ما يؤدي إلى ارتفاع الأسعار.
وتبقى هذه الأسباب عرضية كلما كانت ظرفية أي كلما تم تعديلها إما تلقائيا عن طريق السوق أو عن طريق تدخل الدولة. في حال ما إذا فشلت سياسات الدولة في تعديل الأوضاع الظرفية المذكورة، يتواصل ارتفاع نسبة التضخم.
أما الأسباب الهيكلية فهي الأسباب المتعلقة بالنظام المطبّق بالبلاد والذي يشكل الإطار العام الذي يحدد وينظم سلوكيات الفاعلين الاقتصاديين.
ونذكر من هذه الأسباب التراجع المستمر لقيمة النقد ومنه قدرته الشرائية نسبة للسلع والخدمات بسبب الزيادة المتواصلة للكتلة النقدية. وذلك بسبب نظام النقد القائم على العملة الورقية الإلزامية، الذي يقوم عليه النظام الرأسمالي المطبّق في البلاد. حيث يسمح هذا النظام بالإفراط في إصدار النقد، بما فيه نقد البنك المركزي (القطع والأوراق النقدية) إلى جانب القروض والتسهيلات المالية التي توفرها البنوك لتمويل العمليات الاقتصادية. ويعتبر تراجع قيمة النقد من أهم الأسباب الهيكلية لارتفاع الأسعار المتواصل في ظل النظام الرأسمالي، ما يجعل من العبث تصّور استقرار للأسعار في ظل هذا النظام.
كما أن الزيادة المشطة في فوائض القروض والضرائب تجعل لارتفاع كلفة الإنتاج جانبا هيكليا.
إلى جانب هذه العوامل الهيكلية العامة يتسم الاقتصاد في تونس بعوامل هيكلية خاصة تسبب ارتفاعا متواصلا لكلفة الإنتاج، من قبيل لجوء المنتجين إلى استيراد غالبية المواد الأولية وتجهيزات الإنتاج وعدم السيطرة على مصادر التزّود وعلى سلاسل القيمة. وذلك نتيجة لاختيارات اقتصادية سابقة منذ سبعينات القرن الماضي. والتي جعلت الاقتصاد موجها إلى الخارج. كما أن ضعف الإنتاجية نتيجة التراجع التكنولوجي لوحدات الإنتاج تفقد المنتج التونسي القدرة التنافسية ما يزيد في المواد المستوردة ويفتح الباب لما يسمى بالتضخم المستورد.
تتداخل هذه العوامل فيما بينها لتصبح أسبابا تراكمية تجعل من التضخم صفة لصيقة لكل بلاد تطبّق النظام الاقتصادي الرأسمالي، وإنه لا سبيل للخروج من التضخم إلا بتغيير النظام الرأسمالي.
ومما يزيد التضخم ضغثا على إبّالة ظهور ظاهرة التضخم الركودي أو الركود التضخمي (Stagflation) وهي حالة من النمو الاقتصادي الضعيف والبطالة العالية، أي ركود اقتصادي، يرافقه تضخم. وتعتبر هذه الحالة مرضا مستعصيا يصيب الرأسمالية ويصعب تجاوزه. حيث إن كل محاولة من الحكومات لمعالجة طرف من المرض (التضخم أو الركود) كلما زادت حدة الطرف الثاني.
وبعد عرض أسباب ارتفاع الأسعار، لا بد من بيان مسألة غاية في الأهميّة، وهي أن ارتفاع الأسعار لا يشكل في حد ذاته ضرورة أزمة، بل إن الإطار أي النظام الذي ترتفع فيه الأسعار هو الذي يجعل من ارتفاع الأسعار أزمة ويؤدي إلى غلاء المعيشة وضنك العيش.
حيث إن النظام الرأسمالي يعتمد في توزيع السلع والخدمات على السوق، أي جهاز الثمن. وهذا يعني أنّه كل من يملك الثمن يحصل على ما يريد من سلع وخدمات. وكل من لا يملك الثمن لا يمكن له الانتفاع بالثروة. لذلك فإن النظام الرأسمالي القائم على توزيع الثروة عن طريق جهاز الثمن هو الذي يجعل من ارتفاع الأسعار حالة من الحالات التي يترافق معها ضيق العيش؛ ما يعني أن الإطار الذي ترتفع فيه الأسعار أي النظام الرأسمالي هو الذي سبب أزمة ضيق العيش وأن ارتفاع الأسعار هو عامل من عوامل تفجير الأزمة.
من ناحية أخرى شرع النظام الرأسمالي تمليك الثروات الطبيعية من طاقة ومناجم للشركات الخاصة ما حرم الدولة من الموارد لتمويل المرافق العامة وتوفير خدمات عمومية من صحة وتعليم ونقل قادرة على ضمان حاجيات الناس الضرورية. ما أدى إلى لجوء نسبة كبيرة من الناس بما فيها الفئات الضعيفة إلى الخدمات الأساسية الخاصة من تعليم خاص ومصحات خاصة ونقل خاص ما عمق ضعف القدرة الشرائية للناس، وجعل ارتفاع الأسعار يشكل على مختلف فئات المجتمع.
كما أنه في البلاد يترافق ارتفاع الأسعار مع تجميد للأجور ما أشكل على الناس وأدّى إلى ضعف القدرة الشرائيّة. كما أن الاحتكار والتسعير والقروض الربوية زادت من تأثير ارتفاع الأسعار على ضيق العيش.
خلاصة ما تقدّم فإن النظام الرأسمالي المطبّق في البلاد هو الذي يسبّب الارتفاع المتواصل للأسعار إلى أن يصبح أزمة تشكل على الناس ويؤدي إلى غلاء المعيشة وضنك العيش.
إن الحل لأزمة غلاء المعيشة لا يكون إلا بتغيير النظام الرأسمالي المطبّق في البلاد واعتماد نظام في كل نواحي الحياة وهذا لا يكون إلا في ظل الخلافة الراشدة على منهاج النبّوة.
يقول الله تعالى: ﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى﴾.
بقلم: الدكتور الأسعد بن رمضان
رأيك في الموضوع