يستشهد بعض العلماء وكثير من الناس في سائر بلاد المسلمين بمقطع من آية التهلكة وهو قوله تعالى: ﴿وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾ في معرض الدفاع عن أنفسهم وتبرير تقاعسهم عن قول الحق حينما يُطلب منهم أن ينكروا على الحكام الظالمين، أو يتصدوا للمسؤولين الفاسقين ببيان زيف أعمالهم وكشف تصرفاتهم المنكرة للأمة، وإبداء حكم الشرع فيها، بوصفهم من القائمين على حدود الله، فيقولون: إن هذا المطلب فيه هلاك، وقد نُهينا عن ذلك!
ولم يكتفوا بإثم السكوت عليهم، وفساد الاستشهاد بالفهم المغلوط للآية، بل زادوا في الإثم أنهم أنكروا على من يقوم بواجبه الشرعي تجاه هؤلاء الحكام والمسؤولين، حين يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، ويحاسبهم ويعيب أفعالهم وتصرفاتهم المنكرة، ويعمل على تغييرهم لإعادة حكم الله إلى الأرض، وينصب نحره في سبيل الله، فإذا لحق بهذا القائم بواجبه بعض الأذى والتضييق في الرزق والملاحقة بالسجن أو حتى القتل، قالوا: آذى نفسه وعرضها للتهلكة، وقد يتهمه بعضهم بإثارة الفتنة والسعي للتخريب والفساد!
يقولون كل ذلك وهم يتناسون حديث الرسول ﷺ: «لَا يَنْبَغِي لِامْرِئٍ يَشْهَدُ مَقَاماً فِيهِ مَقَالُ حَقٍّ إِلَّا تَكَلَّمَ فِيهِ، فَإِنَّهُ لَنْ يُقَدِّمَ أَجَلَهُ، وَلَنْ يَحْرِمَهُ» رواه البيهقي، وقوله ﷺ: «أَلَا لَا يَمْنَعَنَّ أَحَدَكُمْ رَهْبَةُ النَّاسِ أَنْ يَقُولَ بِحَقٍّ إِذَا رَآهُ أَوْ شَهِدَهُ» رواه الترمذي، وقوله ﷺ: «سَيِّدُ الشُّهَدَاءِ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَرَجُلٌ قَامَ إِلَى إِمَامٍ جَائِرٍ فَأَمَرَهُ وَنَهَاهُ فَقَتَلَهُ» رواه الحاكم، وقول النبي ﷺ: «أَفْضَلُ الْجِهَادِ كَلِمَةُ عَدْلٍ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ» رواه أبو داود.
فهل من يقف في وجه الحاكم الجائر الظالم استجابة لأمر النبي ﷺ طمعا في نوال منزلة سيد الشهداء يكون قد أهلك نفسه؟!
ويتناسون مواقف علماء السلف الصالح مع الحكام في جميع العصور الإسلامية، الذين قاموا بواجبهم خير قيام، وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، وحاسبوا حكامهم ولم تأخذهم في الله لومة لائم، أمثال الإمام أحمد بن حنبل وتعرضه للأذى والسجن في قضية خلق القرآن المعروفة، فثبت وصبر على ذلك لأنه يدرك أن بزلّته تزل أمة، والعز بن عبد السلام سلطان العلماء ووقوفه في وجه المماليك وحديثه معهم بقارص الكلام دون أن يخشى بطشا ولا سجناً، والإمام الأوزاعي ومحاورته القوية لأبي العباس السفاح رغم سطوته وجبروته... هؤلاء العلماء يدركون أن الإيمان له تكاليف، قال تعالى: ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ﴾، فهل كان هؤلاء العلماء وغيرهم يلقون بأنفسهم إلى التهلكة؟!
وبالرجوع إلى الآية التي يستشهد بجزء منها هؤلاء المتقاعسون عن قول الحق؛ الآية هي: ﴿وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾.
فهذه الآية تبين أنه لما فرض الله سبحانه وتعالى الجهاد في سبيله وأوجب نشر دينه بالفتح، عقب على ذلك بذكر الإنفاق في سبيل الله، وهذا الإنفاق في الجهاد يعد من أعماله ومقوماته الأساسية، فالجهاد يكون بقتال الأعداء كما يكون بالإنفاق، قال تعالى: ﴿انفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾، ويوضح ذلك ما ورد في سبب نزول هذه الآية، كما ورد في تفسير البغوي: "قال أبو أيوب الأنصاري: نزلت فينا معشر الأنصار وذلك أن الله تعالى لما أعز دينه ونصر رسوله قلنا فيما بيننا: إنا قد تركنا أهلنا وأموالنا حتى فشا الإسلام ونصر الله نبيه فلو رجعنا إلى أهلينا وأموالنا فأقمنا فيها فأصلحنا ما ضاع منها، فأنزل الله تعالى ﴿وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾، فالتهلكة الإقامة في الأهل والمال وترك الجهاد، فما زال أبو أيوب يجاهد في سبيل الله حتى كان آخر غزوة غزاها بقسطنطينية في زمن معاوية فتوفي هناك ودفن في أصل سور القسطنطينية وهم يستسقون به". فالتهلكة هي الإقامة في الأهل والولد والمال وترك الجهاد في سبيل الله.
وروي أن قوما حاصروا حصنا، فقاتل رجل حتى قتل فقيل ألقى بيده إلى التهلكة، فبلغ عمر بن الخطاب رضي الله عنه ذلك فقال: كذبوا أليس يقول الله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ وَاللهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ﴾؟
كثيرة هي الآيات والأحاديث التي تحث على الجهاد بنوعيه؛ القتال والإنفاق في سبيل الله، ومقاومة الظالمين والوقوف في وجوههم والتغيير عليهم، ومحاسبة المسؤولين وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، واعتبرت الآيات والأحاديث الشريفة السكوت عن ذلك تركاً للواجب، وهو الهلاك بعينه، وجعلت الصبر على الأذى والاضطهاد الذي يلحق بالمسلم وهو قائم على ذلك من عزم الأمور، قال تعالى: ﴿لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيراً وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾.
ومدحت صبر المجاهدين الذين لا تلين لهم قناة وهم يقارعون عدوهم لا يضيرهم ما يصيبهم في سبيل الله، قال تعالى: ﴿وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِين﴾. فأي تهلكة في ذلك وقد أعد الله لهم الجزاء الأوفر يوم القيامة. ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾؟!
أي تهلكة وبلال الذي صبر على الأذى والعذاب في بطحاء مكة من أجل دينه قد نال مرتبة عالية عند النبي ﷺ وعند الصحابة رضوان الله عليهم حتى قال عمر بن الخطاب "أبو بكر سيدنا، وأعتق سيدنا"؟ وهل كان آل ياسر يهلكون أنفسهم وقد خاطبهم النبي ﷺ بقوله: «صَبْراً يَا آلَ يَاسِرٍ، فَإِنَّ مَوْعِدَكُمُ الْجَنَّةُ»؟!
خلاصة القول: ما يستشهد به هؤلاء بهذا المقطع من الآية هو استشهاد فاسد ومغلوط، وأن الحالة التي وصلت إليها الأمة اليوم من التيه والضياع والتردي والنزول عن مكانتها الطبيعية التي ارتضاها الله لها جراء عدم تطبيق دين الله في الأرض، وجراء الرضا والسكوت على حكام طواغيت ظلمة يحرسون مشاريع الغرب الكافر في بلادنا، هي عين التهلكة.
ولهذا لا بد من ردة عن الباطل وصحوة في اتجاه الحق قوية، يتحمل بها المسلمون مسؤوليتهم تجاه دينهم وأمتهم بالوقوف في وجه الطواغيت والعمل على تغييرهم مهما كلف ذلك من ثمن ففي ذلك عز الدنيا والآخرة.
بقلم: د. نبيل الحلبي – غزة/ الأرض المباركة (فلسطين)
رأيك في الموضوع