العاقل من اتعظ بغيره والشقي من اتعظ بنفسه، وقد أمرنا القرآن الكريم بالسير في الأرض لننظر في عواقب الأمم والشعوب لندرك أسباب هلاكها وزوالها فنتجنب ما وقعوا فيه ونعلم أسباب الخلاص، قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ﴾ [النحل: 37]، من هنا تمكن أهمية دراسة التاريخ والتفكير فيه بعمق واستنارة لأخذ العظة والعبرة منه.
منذ سقوط دولة الخلافة العثمانية سنة 1924 ووقوع العالم الإسلامي تحت الاستعمار، صار المسلمون يسعون لتحرير بلادهم من الاستعمار، لكن بدلا من أن تكون حركة التحرر من الاستعمار حركة واحدة يتعاون فيها المسلمون كلهم في جميع البلاد لإعادة الخلافة من جديد، وتطبيق حكم الله في الأرض، بدلا من ذلك استجابوا للنصارى الغربيين من الإنجليز والفرنسيين الذي علموهم أفكارهم الليبرالية وأنظمتهم الرأسمالية التي حلت في الواقع محل أفكار الإسلام وأنظمته في الحكم والاقتصاد وغيرها. وصاروا ينظرون لدينهم نظرة كهنوتية كما ينظر النصارى لدينهم، وحصروا الإسلام في العبادات والأخلاق وفصلوه عن الحياة والحكم والدولة والسياسة، فكانت استجابتهم لليهود والنصارى، سبب المآسي التي لحقت بهم طوال 94 عاما، وصاروا يحفظون كتاب الله ويتلون آياته آناء الليل وأطراف النهار وهم لا يعرفون كيف ينزلون أحكامه على أرض الواقع. ولم يدركوا معنى النهي عن موالاة الكفار الوارد في قول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾. فمن صور التولي الدعوة إلى الديمقراطية وفصل الدين عن الدولة ومحاربة الاستعمار على أسس وطنية وليس على أساس الجهاد، ولإثبات ذلك دعوا إلى إقامة دولة علمانية مدنية، فلما خرج الاستعمار عسكريا من بلادهم، وأُوصل بعض أبنائهم إلى الحكم طبقوا ما كانوا يدعون له من مدنية وعلمانية، ولم يحكموا بالإسلام، ولما كان المخلصون يقولون لهم اتقوا الله ولا تتولوا الغرب الكافر، قالوا لا بد لنا من إرضاء الغرب فهم القوة العظمى، ولا بد من الحصول على مساندتهم فكانوا كما أخبر الله عنهم في الآية: ﴿فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ﴾ [المائدة: 52]، أي أن المنافقين كانوا يسارعون في التعاون مع يهود المدينة ويبقون على حلفهم معهم لأنهم يخافون من هزيمة محمد r فينقلب اليهود عليهم، فهذا العمل دل على عدم إيمانهم بالله ورسوله فكان رد الله عليهم أن الأمر ليس كذلك ﴿فَعَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ عَلَى مَا أَسَرُّواْ فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ﴾ [المائدة: 52] وفعلا تم الفتح وانتصر المسلمون ورد كيد اليهود والمنافقين، ولو أدرك المسلمون الآية وآمنوا بها حقا لتمسكوا بإسلامهم ورفضوا تولي الغرب الكافر وتطبيق أوامره والخضوع له.
لم يدرك حكام المسلمين اليوم ولا حتى قادة بعض الحركات الإسلامية و"الجهاديين"، ولم يؤمنوا حق الإيمان أن النصر بيد الله، ولم يدركوا أن الكفار من النصارى واليهود لن ترضى عنهم ولن يجدوا عندهم العزة والحماية وأنه إذا ما انتهت وظيفتهم سيلقون بهم إلى شعوبهم الغاضبة عليهم، أو ينزعون عنهم السلطان والملك بالانقلاب والسجن والمحاكمة وغير ذلك من وسائل القهر. قال تعالى: ﴿وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ﴾ [البقرة: 120]
حقا ما لك من الله من ولي ولا نصير، وهذا ما نراه في وقتنا الحاضر بخصوص الذين وضعوا أيديهم في أيدي أعداء الله وتعاونوا معهم على إقصاء دين الله وإبعاده عن الحكم، وحكموا بالمدنية والعلمانية والديمقراطية وطبقوا كل القوانين والمعاهدات الدولية، ظنا منهم أن ذلك يورثهم العزة والغنى وما دروا أن في ذلك السم الزعاف، ولنضرب على ذلك بعض الأمثلة من الواقع الذي نعيشه حتى ندرك مغبته.
عند قيام الثورة البلشفية وجه لينين وستالين في 15/12/1917م نداء للمسلمين جاء فيه: (أيها المسلمون مساجدكم، صلواتكم، أعيادكم، تقاليدكم في أمان، قوموا وساعدوا الثورة ضد القيصرية.لقد جاءت ساعة خلاصكم)، وظنها المسلمون ساعة الخلاص، فهبوا للتخلص من القيصرية والاستراحة من نيرها.
وضعوا أيديهم بأيدي الكفار للتخلص من عدو كافر أيضا، دون تفكير بالحكم الشرعي، ودون تحرير البلاد والعباد من سيطرة الكفار بهدف إقامة الإسلام، بعد سقوط الخلافة العثمانية مباشرة، إنما كان هدفهم هو التخلص من الظلم، كما هو هدف البلاشفة الشيوعيين، فكانت ثورتهم ثورة في سبيل تحقيق بعض المصالح الدنيوية، فكان نتيجة هذا التعاون والمولاة والمناصرة غضب الله ونقمته، فما انتصرت الثورة الشيوعية حتى عقدت المجازر للمسلمين.
وصدق الله العظيم القائل ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُم مِّنَ الْحَقِّ﴾ إلى قوله تعالى ﴿وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ * إن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاء وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُم بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ﴾ [الممتحنة: 1-2]
مثال آخر من الأمثلة التاريخية المعاصرة هي الأحداث التي وقعت للمسلمين في أفريقيا الوسطى، عندما احتلها الاستعمار الفرنسي، عمل المسلمون مع أهل البلاد الوثنيين والنصارى على تحرير البلاد ودحر الاستعمار، لكن الاستعمار خرج وخلف أذنابه في السلطة من النصارى، وقبل المسلمون بقيادة النصارى واستلامهم الحكم، وفي ذلك مخالفة لقوله تعالى ﴿ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا﴾ فلا يجوز للمسلم أن يقبل بحكم الكافر.
وعمل النظام العميل ومن ورائه فرنسا، وخاصة نظام باتسيه، عمل على عزل المسلمين عن الوثنيين خوفا من انتشار الإسلام بينهم، بل قام بعملية إبعاد للمسلمين من الحكومة ومن الوظائف العامة، فاتجه المسلمون نحو التجارة، ولكن النظام لم يتركهم لحالهم فسلط عليهم من نفذ بهم المجازر، فتوقفت التجارة وظهر نقص شديد في المواد الغذائية لدى سكان العاصمة بانغي.
وهذا لأن المسلمين الذين يخوضون حروبا لتحرير بلادهم ولا يكون لهم برنامج سياسي واضح من تكوين للدولة على أساس الإسلام، ويضعون أيديهم بأيدي الكفار ويساعدونهم في التحرر، يكون هذا مصيرهم، بسبب غضب الله عليهم، لأن العمل الذي قاموا به محرم..
حقا لم يجد المسلمون في أفريقيا الوسطى سندا ولا مساعدة من أحد وعمل النصارى فيهم قتلا وتعذيبا ولا زالت دماؤهم تجري حتى هذه الساعة ﴿مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ﴾.
لو أدرك المسلمون الذين يصلون إلى الحكم وآمنوا حق الإيمان بقوله تعالى ﴿وَمَن يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ﴾ لحكموا بالإسلام وكفروا بكل الدساتير الوضعية الكافرة، والغرب الكافر والمنظمات الدولية الاستعمارية وعلى رأسها الأمم المتحدة، ولما قبلوا أي قرار صادر منهم ولما جلسوا معهم على مائدة المفاوضات أبدا.
فمتى يدرك المسلمون عامة وقادة حركاتهم خاصة أن الوحدة فيما بينهم على تطبيق شرع الله وتبني أحكامه في الاقتصاد والسياسة والاجتماع والاتفاق على تطبيقها بغض النظر عن رضا الغرب أو غضبه، المهم رضا الله وغضبه فهو الله الذي يجب أن يطاع ويعبد وينفذ أمره وليس أمريكا ولا أوروبا، وإن قطع الولاء عنهم وتولي الله ورسوله والمؤمنين لهو العز والنصر.
رأيك في الموضوع