كان إسقاط قيمة التقيد بالأحكام الشرعية من الأسس التي تقوم عليها الدولة، ومن الأسس التي تقوم عليها حياة الأفراد الأثر الأكبر على حياة المسلمين، فقد كان أخذ ما ليس من الإسلام واعتباره منه ولو اسماً من قِبل الدولة في أيام العثمانيين، أو إهمال الأفراد مسألة التقيد بالأحكام الشرعية من حياتهم اليومية من أهم ما هدم الدولة الإسلامية، ومن أهم الأسباب التي جعلت المسلمين في هذه الذلة وهذا الانحطاط. لذلك كان لا بد من أن يوجّه المسلمون العناية الكلية للأفكار التي تتعلق بالأحكام الشرعية مما يترتب عليه انضباط السلوك في الفرد، وانضباط السلوك في الأمّة في سير الدولة.
أمّا إسقاط قيمة الأسس التي تقوم عليها حياة الأفراد، فإن ذلك يتجلى في إهمال بعض الأفراد مسألة التقيد بالأحكام الشرعية في حياتهم اليومية، سواء في سلوكهم الفردي، أو في علاقاتهم مع الناس، مع أن التقيد بالأحكام الشرعية هو أساس الحياة وهو ثمرة الإيمان وعلى أساسه يجب أن يكون انضباط السلوك. والآيات الدالة على ذلك قطعية الدلالة في وجوب التقيد بأحكام الشرع. قال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا﴾ النساء، وقال أيضاً: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ النساء، وقال أيضاً: ﴿وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا ن َهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ الحشر. فهذه الآيات قطعية الدلالة في وجوب التقيد بأحكام الشرع، فالله تعالى أمر المسلمين بأن يأخذوا ما أتاهم به رسول الله مما فرضه الله عليهم أو أباحه لهم، وأمرهم أن ينتهوا عما نهاهم عنه مما حرمه عليهم أو كرهه لهم، فكل طلب جاء به الرسول من عند الله وجب التقيد به سواء أكان طلب فعل جازم كالفروض أو غير جازم كالمندوبات، أو طلب ترك جازم كالمحرمات أو غير جازم كالمكروهات، أو تخييراً بين الفعل والترك كالمباحات، وكله يدخل تحت قوله: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾، لأن (ما) من صيغ العموم فهي عامة فيما وردت به وهو الأحكام الشرعية، لأن الآية نزلت في تقسيم الفيء على المهاجرين دون الأنصار، أي في حكم من الأحكام الشرعية، فموضوعها حكم شرعي ثبت بفعل الرسول وجاءت بصيغ العموم ﴿وَمَا آتَاكُمُ﴾، ﴿وَمَا نَهَاكُمْ﴾، فهي تعم جميع الأحكام الشرعية. وإذا قرنت هذه الآية بقوله تعالى: ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ النور، فإنه يدل على أن الأمر في قوله: ﴿فَخُذُوهُ﴾ وفي قوله: ﴿فَانْتَهُوا﴾ للوجوب، ولذلك كان فرضاً على كل مسلم أن يأخذ الحكم الشرعي وأن يتقيد به. وقد أكد القرآن هذا المعنى بشكل جازم في نفيه الإيمان عمن يحكّم غير الرسول، أي غير شريعة الإسلام باعتبارها رسالة الرسول r، فقال ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ﴾، ثم لم يكتف بمجرد التحكيم بل اشترط الرضا بالحكم فقال: ﴿ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾، مما يدل على أنه لا يكفي التقيد بالحكم الشرعي خوفاً من السلطان بل لا بد أن يرتاح المسلم وأن يسلّم به تسليماً تاماً. روي أنه قد اختصم يهودي ومنافق فدعا المنافق إلى كعب بن الأشراف ليحكم بينهما ودعا اليهودي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأتيا النبي فقضى لليهودي فلم يرضَ المنافق فنزل قوله تعالى: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ﴾.
ولم يكتف القرآن بهذا التأكيد بل نعى على الذين يريدون أن يتحاكموا إلى غير ما جاء به الرسول من شريعة الإسلام، وجعل احتكامهم لغيره احتكاماً للطاغوت وذمهم على ذلك، فقد أخرج ابن أبي حاتم والطبراني بسند صحيح عن ابن عباس قال (كان أبو برزة الأسلمي كاهناً يقضي بين اليهود فيما يتنافرون فيه، فتنافر إليه ناس من المسلمين)، فأنزل الله: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا﴾ الآية، مما يدل بشكل صريح على أن الرجوع إلى غير الأحكام الشرعية يعتبر رجوعاً إلى الطاغوت، وقد قال الله إن الشيطان يريد أن يضل من يفعله.
وقد جاءت إلى جانب الآيات أحاديث صريحة في الدلالة على وجوب التقيد بالأحكام الشرعية، فقد قال صلى الله عليه وسلم: «تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا كتاب الله وسنّتي»، وقال صلى الله عليه وسلم: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» وفي رواية: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد»، وروى مسلم عن جابر بن عبدالله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول في خطبته: «أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة»، وروى الترمذي عن العرباض عن سارية قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم ثم أقبل علينا فوعظنا موعظة بليغة ذرفت منها العيون ووجلت القلوب، فقال قائل: يا رسول الله كأن هذه موعظة مودِّع فماذا تعهد إلينا؟ فقال: «أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة لولاة الأمر وإن كان عبداً حبشياً فإنّ من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً فعليكم بسنّتي وسنّة الخلفاء الراشدين المهديين، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة»، والمراد بسنّة الرسول قول الرسول وفعله وتقريره وهو ما يُعرف بالسنّة من الأدلة الشرعية، وليس المراد المندوبات أو النوافل أو الاقتداء بالرسول، والمراد بسنّة الخلفاء الراشدين المهديين ما يسيرون عليه من تطبيق أحكام الشرع أي الطريقة التي يسيرون عليها، والمراد بالخلفاء الراشدين كل خليفة راشد، مهدي، وليس الأربعة فقط، سواء أكان من الخلفاء في الأيام الأولى كعمر بن عبدالعزيز، أم كان من الخلفاء الذين سيكونون في المستقبل، والمراد بالبدعة كل ما خالفت الشرع أي غير الأحكام الشرعية مطلقاً، وليس الأمور الخاصة بالعبادات فقط. وأخرج ابن حجر في صواعقه عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إني تركت فيكم كتاب الله عز وجل وسنتي فاستنطقوا القرآن بسنتي»، فهذه الأحاديث تدل على التمسك بكتاب الله وسنة رسول الله أي على التمسك بالأحكام الشرعية، فهي تدل على التقيد بالأحكام الشرعية. ولم يكتف الرسول بالأمر بالتمسك بالكتاب والسنة بل حذر من اتباع غيرهما حين حذر من اتباع سننِ غيرنا. فقد روى البخاري عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لتتبعُنّ سنن من كان قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب تبعتموهم. قلنا: يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال: فمن»، فهذا الحديث بمقام التبكيت على هذا العمل فهو نهي جازم، لأنه يتضمن نهياً ويتضمن ذماً لمن يفعل ذلك. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن سؤال أهل الكتاب عن شيء، إذ أن سؤالهم يعني الرجوع إلى غير الكتاب والسنّة، أي غير الأحكام الشرعية، قال صلى الله عليه وسلم: «لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء». وقد روى البخاري عن عبدالله بن عبدالله أن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (كيف تسألون أهل الكتاب عن شيء وكتابكم الذي أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدث تقرؤونه محضاً لم يشب)؟ فهذه الأحاديث كلها تدل على التحذير من أخذ شيء من غير الكتاب والسنّة أي تنهى عن أخذ شيء من غير الأحكام الشرعية مما يؤكد وجوب التقيد بالأحكام الشرعية تقيداً كاملاً.
فهذه الأدلة تدل دلالة لا تقبل الجدل على وجوب التقيد بالأحكام الشرعية وتدل على أنها أساس في حياة الفرد المسلم، فإهمال بعض الأفراد لها في حياتهم اليومية وعدم طغيانها على العلاقات بين الأفراد أسقط قيمة الأسس التي تقوم عليها حياة الأفراد اليومية والأسس التي تقوم عليها العلاقات بين الأفراد. لهذا كان من أهم الأعمال أثناء العمل لاستئناف الحياة الإسلامية وحمل الدعوة الإسلامية إلى العالم العمل على توضيح قيمة الأسس التي تقوم عليها حياة الأفراد والعمل على إيجاد رأي عام في الجماهير لقيمة الأسس التي تقوم عليها العلاقات بين الأفراد فإن هذا من أهم الأعمال لإقامة الحكم على الفكرة الإسلامية، وهذا كله إنما يكون بجعل التقيد بالأحكام الشرعية سجية من السجايا لدى المسلمين وبجعله وحده هو الطاغي على الناس.
رأيك في الموضوع