انطلقت شرارة ثورات ما يسمى بالربيع العربي من تونس، ثم بدأت تتفجر الثورات وتتنقل من بلد إلى آخر، وأصبحت حالة الأنظمة الحاكمة في بلاد المسلمين كحال الغرفة الممتلئة بالغازات القابلة للانفجار، كل من فيها يخشى من تحرك يشعل شرارة صغيرة فتفجر أرجاء المكان، فقد كانت أدنى شرارة في أي بلد كفيلة بخروج الملايين للمناداة بإسقاط النظام. فتبع تونس مصر ثم ليبيا فسوريا واليمن، وعاشت بقية الأنظمة في العالم الإسلامي أجواء الرعب والهلع، كل ينتظر دوره ويتربص، ولم يعد أحد بمنأى عن رياح التغيير.
لقد أيقظت ثورة تونس في الأمة الإسلامية إرادة التغيير الكامنة، وأدركت الأمة بعدها أنها قادرة إن تحركت- على التخلص من قيود الذل والخضوع للأنظمة الرابضة على صدرها، فتولد شعور جماعي عارم لدى الشعوب بالتهيؤ للتغيير، فكانت حالة الناس كما هي الأنظمة مستفزة تترقب حركات الأنظمة لتجد لها فرصة لتثور، فجعلت الأنظمة تحاول استرضاء الشعوب، وتنفيس حالة الضغط التي تعيشها، وتقديم التنازلات والأعطيات والمنح الشكلية، وإدارة التحركات الجماعية بالاختراق والتوجيه تارة، أو بالقمع والبطش والقتل والتدمير تارة أخرى.
إن عنصر المفاجأة في ثورات الربيع العربي هو أبرز عناصر هذه الثورات، وهو السبب الفاعل بشكل رئيسي لسرعة انتشارها أول الأمر، فلم تكن دوائر صنع القرار في الغرب الكافر تتوقع أن يحدث ما حدث في هذا الوقت وبهذه السرعة وبهذا الانتشار، على الرغم من أن كثيرا من الدراسات الغربية أشارت سابقا إلى احتمال وقوع ثورات في العالم العربي، وقد وجدت مشاريع ورؤى حول صناعة الفوضى لدى سياسيين غربيين إلا أن هذا كله لم يزد عن كونه بحثاً لواقع شعوب المنطقة وقابليتها للانفجار، كحال من يقول بأن منطقة ما فيها قابلية حدوث زلازل، ولكنه لا يستطيع أن يتوقع موعد حدوثه أو آثاره. لذلك كان وقع هذه الثورات على دول الغرب الكافر وعملائهم صادما، مما أظهر في أقوالهم وتحركاتهم الاضطراب والتخبط بادئ الأمر، ثم ما لبثوا أن التقطوا أنفاسهم وأجمعوا كيدهم وبدأوا يمكرون.
وعلى الرغم من ذلك فإن مد التحرك الجارف للشعوب الثائرة لا يستطيع أحد أن يقف في وجهه أبدا، وقد تركزت المطالب الشعبية في مقولة واحدة كانت هي كالوقود للثورة (الشعب يريد إسقاط النظام)، وكان هذا الشعار هو الذي يلهب المشاعر ويذكي الحماس، فسارت الجموع كالموج الهادر، فلماذا إذن ومع كل تلك الطاقة الكبيرة التي تفجرت، والدافعية العظيمة التي تولدت حدث ما حدث من انتكاسات في البلاد التي وقعت فيها ثورات؟
من الممكن إجمال أسباب هذه الانتكاسات بأمور أهمها:
أن الثورات بدأت كحالة من الهياج العام من غير تخطيط مسبق، فقد ظهر عليها الارتجالية والعفوية، وكانت تسير كالموج الجارف، بعواطف مشحونة، من غير أن يكون لها غاية واضحة سوى إسقاط النظام، أما ما بعد إسقاط النظام، فلم يكن في الحسبان، ولم تكن الرؤية واضحة، ولم يكن البديل المطلوب ظاهرا، حتى فكرة النظام الذي يراد إسقاطه لم تكن مبلورة، وكانت عائمة تدور حول شخص الحاكم والمقربين منه، وهذا الوضع جعل مشاعر الجماهير ودافعيتهم تفتر بمجرد سقوط الحاكم، كما مكنت هذه الضبابية للأنظمة من تغيير جلدها وتبديل الوجوه، والخروج من باب للدخول من الباب الخلفي.
وجود فراغ في قيادة الجماهير الثائرة، فقد كانت تسير بلا رأس مدبر أو قائد مسير، مما أتاح لحركات من المعارضة المتولدة من رحم الأنظمة ركوب الموجة ومحاولة قيادة الجماهير، بالإضافة إلى جهات من الأنظمة القائمة بدّلت جلدها واندست في الثورات ولبست لبوسها، وبسبب غياب الوعي الصحيح أمكن لهؤلاء جميعا من ركوب الموجة وإدارتها نوعا ما في معظم الحالات.
تدخل الغرب الكافر وسرعة تداركه لنفوذه، وتجاوبه مع حالة الثورة القائمة بأمور عدة منها:
المحافظة على بنية الأنظمة العميلة الأساسية، والدفع بشخص الحاكم ككبش فداء، كما حرص على تنحية مؤسسات الحكم الفعلية من وجه الثورة، فالجيش وأجهزة المخابرات والقضاء، والوسط السياسي والإعلامي بمجمله لم يتأثر بالثورة في تونس وفي مصر بل بقيت هذه الأجهزة بنفوذها وفاعليتها كما هي وتولت هي إدارة الأزمة، وضمنت أن فراغ كرسي الرئاسة شكلي محض.
الدفع بعملائه وأذنابه لمواكبة الثورة ومداراتها، والسير في ركابها، ومحاولة إبرازهم وتلميعهم من خلال وسائل الإعلام المرتبطة به، ليسهل عليهم الإمساك بزمام الثورة والالتفاف عليها.
طرح البديل الفكري والترويج لمفاهيم الغرب في الحكم والحياة، كالديمقراطية والدولة المدنية والمحافظة على الحريات وتداول السلطة، وقد ظهر زخم كبير لهذه المفاهيم في وسائل الإعلام وتم الترويج لها في مقابل الاستبداد والظلم والتسلط الذي تمارسه الأنظمة القائمة، ومحاولة فرضها على أجندة الثوار باعتبارها هي المطالب الثورية، وفي ظل الفراغ الفكري والتضليل الإعلامي راجت هذه الأفكار في الثورات وأصبحت مطلبا لها، ولا بد هنا من استثناء ثورة الشام لأنها حالة مختلفة عن بقية الثورات. ومما ساهم في هذا الانحراف الفكري تبني ما يسمى بحركات الإسلام "المعتدل" لهذه المفاهيم والمساهمة بالترويج لها وإضفاء الشرعية عليها، فكان لفعلها هذا الأثر القاتل لأن الشعوب وضعت ثقتها بشكل إجمالي بهذه الحركات لثقتها بالإسلام الذي هو دينها وعقيدتها، فتجرعت السم من يد من يفترض به أن يكون طبيبها!
استغلال الثورات وتجييرها في الصراع على النفوذ بين المستعمرين، فالثورة الليبية تحولت إلى ساحة للصراع بين بريطانيا ومعها أوروبا وبين أمريكا التي لم يكن لها موطئ قدم في ليبيا إذ كان النفوذ فيها خالصا لأوروبا، فآل حال الثوار أو أكثرهم إلى أن يكونوا أدوات لهذا الصراع نتيجة عدم الوعي السياسي، وكذلك الحال في اليمن السعيد الذي لم يعد سعيدا بسبب الصراع عليه بين بريطانيا وأمريكا من خلال العملاء والأذناب.
هذه أبرز النقاط وإن كانت مؤامرات الغرب الكافر وأساليبه الخبيثة كثيرة ومتشعبة ولا تقف عند حد المذكور آنفا. ولكن كيف يكون التغيير وبماذا يكون؟ وهل المطلوب تغيير أي تغيير؟
إن المطلوب هو تغيير يقلب الأوضاع الحالية انقلابا جذريا يعيد للأمة الإسلامية مكانتها وعزها وكرامتها التي فقدتها بعد أن كانت سيدة الدنيا وهي ترنو للآخرة لنيل رضوان ربها في ظل دولة الخلافة على منهاج النبوة تظلها راية الرسول r.
وهذا التغيير المنشود لا يكون إلا "بالطريقة نفسها التي بلّغ الرسول r رسالة الإسلام بها، بإيجاد كتلةٍ قائمة على الإسلام وليس غير، ومن ثَمَّ تفاعلُها مع الأمة وطلبُ نصرةِ أهل القوة فيها، وأن تستمرَّ عليها حتى ينصرَها الله سبحانه وتعالى وتقيمَ حكمَ الإسلام ودولةَ الإسلام. هذا هو صلاح الأمر، وبهذا وحده تنهضُ الأمةُ من سقوطها، وتقومُ من كبوتها، وتعود سيرتَها السابقة، خلافةً راشدةً، تطبقُ الإسلام في الداخل وتحملُه للعالم بالدعوةِ والجهاد".
وهذه الكتلة موجودة فعلا، وهي تسعى بكل طاقاتها سائرة على منهاج النبوة بالطريقة نفسها التي سار عليها r لم تحد عنها ولم تخالفها إلى غيرها فكرة وطريقة، فما على الأمة سوى أن تتجاوب معها وتعطيها قيادتها فقد جربت أمتنا وجُرّب عليها، وانقادت لمن أضلوها الطريق وساروا بها في متاهات الضياع، أفما آن لها أن تعطي قيادها للرائد الذي لا يكذب أهله وقد استبان صدق رأيه وإخلاصه الخالص.
هذا هو الطريق الموصل للتغيير المنشود؛ وهو سير الأمة وتجاوبها مع حزب التحرير ليقودها بأهل القوة فيها حتى يعود لها سلطانها ويعود لها عزها ومجدها ومنعتها في ظل دولة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة.
رأيك في الموضوع