تحدثنا في الحلقة السابقة عن الأعمال الإجرامية التي قام بها الصليبيون الجدد ويهود ضد أهل بيت المقدس وأكنافه، خلال الفترة التي سبقت التهجير الأول لأهل فلسطين سنة 48، والسنوات التي أعقبتها في أوائل الخمسينات من القرن الماضي. وفي هذه الحلقة نكمل الحديث عن الأعمال الإجرامية في الفترة التي تلت تلك السنوات؛ وخاصة العدوان على القدس والمسجد الأقصى المبارك سنة 67.
- استمرت المؤامرات واحدة تلو الأخرى؛ بعد مرحلة الانتداب البريطاني، وبعد إعلان قيام دولة يهود سنة 1948، وقد تمثلت هذه المؤامرات بأعمال كثيرة قام بها يهود، بالتعاون والتنسيق مع الدول الغربية في هيئة الأمم المتحدة، وبمساعدة حكام المسلمين، وخاصة حكام ما تسمى بدول الطوق. وقد تمثلت هذه الأعمال بالأمور التالية:
1- العدوان الثلاثي على مصر سنة 1956 بمشاركة جيش يهود، حيث قصفت طائرات بريطانيا وفرنسا القاهرة والإسكندرية وبورسعيد والسويس والإسماعيلية، واحتل كيان يهود سيناء وقطاع غزة، واحتلت القوات المشتركة مناطق في السويس وبورسعيد وقناة السويس. وقد شارك كيان يهود في هذه الحرب؛ وذلك لإشعار دول المنطقة أولا بقوته وقدراته العسكرية في ضرب أي تحرك في المحيط الإسلامي، خاصة أن مصر هي القوة الكبرى في المحيط. وثانيا إدخال كيان يهود في رسم سياسة المنطقة السياسي وتشجيعه على معاكسة أمريكا في سياساتها، وقد برز ذلك في المفاوضات التي أعقبت احتلال القوات المشتركة للسويس.
2- حرب الأيام الستة، أو قل الحرب التحريكية الثانية بعد حرب سنة 48؛ حيث وقعت في الخامس من حزيران إلى العاشر منه لسنة 1967، ونشبت بين كيان يهود، وكل من العراق ومصر وسوريا والأردن، وأدت إلى احتلاله، بل تسليمه سيناء وقطاع غزة، والضفة الغربية، والجولان. ولم يلبث يهود طويلا حتى قاموا بإحراق منبر صلاح الدين الأيوبي مع جزء من المسجد الأقصى بتاريخ 21/8/1969م، على يد اليهودي مايكل دينس روهن، تحت سمع وبصر بل وتشجيع من الصليبيين والصهاينة في العالم أجمع؛ لأنه رمز لتطهير القدس وفلسطين من عباد الصليب.
3- قام اليهود أثناء حرب سنة 67 وبعدها بتهجير قسم كبير من أهل فلسطين إلى الخارج، حيث هجر أكثر من 460 ألف فلسطيني من الضفة الغربية وقطاع غزة، حسب معطيات الجامعة العربية، وخاصة الصادرة من صندوق النقد العربي في عام 1991، ونحو 230 ألفا منهم هم من لاجئي عام 1948، كانوا يقطنون المخيمات في الضفة والقطاع إبان احتلال يهود للمناطق الفلسطينية الناجية من الاحتلال، وطرد كيان يهود أكثر من 726,000 فلسطينياً أو أجبرهم على الرحيل، وأصبحوا في عداد المهجرين بعد سنة 67. ويبلغ عدد المهجرين اليوم من فلسطين حسب إحصائية سجلات ما تسمى بوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) سنة 2019، حوالي 5.6 مليون. ووفق إحصائية المركز الفلسطيني للإحصاء في منتصف عام 2019، فإن عددهم يبلغ حوالي 13 مليوناً، وهم من الذين هُجر آباؤهم وأمهاتهم من فلسطين قهرا وقسرا. وهؤلاء المهجرون ما زالوا يعيشون في ظروف قاسية وأحوال صعبة؛ رغم مرور أكثر من سبعين عاما على تهجيرهم، وتشتيتهم في الأرض.
4- أخذ الغرب الكافر بالتعاون مع قادة المسلمين في الجامعة العربية، ومنظمة المؤتمر الإسلامي بوضع الخطط الجديدة لجعل كيان يهود جسما مقبولا في بلاد المسلمين؛ وذلك عبر قرارات دولية عدة وفي الجامعة العربية. وأشهر القرارات الدولية هو قرار 242 سنة 1967 الصادر عن الأمم المتحدة؛ والذي يملّك اليهود معظم فلسطين، ويساند القرار الذي صدر سنة 1947 والمسمى بقرار التقسيم 181. أما الجامعة العربية فقد اتخذت قرارا يتوافق مع القرارات الصليبية الصهيونية بخصوص فلسطين؛ وهو قرار قمة بيروت سنة 2002 الذي يقر بالاعتراف بكيان يهود على أرض فلسطين المغتصبة سنة 48، وذلك دون أن يقدم يهود أي ثمن مقابل ذلك!
5- لقد قام الغرب بفصل قضية فلسطين عن بعدها الإسلامي، ووضعها في إطار قومي بدايةً ثم إقليمي. ففي بداية الصراع مع الصهيونية والصليبية، جعل الغرب هذا الصراع صراعا قوميا عن طريق حكام المسلمين. أي جعله محصورا في الجامعة العربية في قضية عربية، وفصلها عن بعدها الديني الذي يعتبرها عقيدة في حياة الأمة. وبعد هذا الفصل القبيح المسخ جعلها قضية إقليمية، تختص بأهل فلسطين؛ لحصر حالة العداء مع أهل فلسطين فقط كمقدمة لتخلي المسلمين عنها نهائيا. وفي هذا الإطار ووفق هذا المخطط الإجرامي أنشئت منظمة التحرير الفلسطينية سنة 1964؛ بعد انعقاد المؤتمر العربي الفلسطيني الأول في القدس نتيجة لقرار مؤتمر القمة العربي 1964 في القاهرة لتمثيل الفلسطينيين في المحافل الدولية، وهي منظمة معترف بها في الأمم المتحدة والجامعة العربية كممثل شرعي وحيد للشعب الفلسطيني.
6- قام يهود بمساعدة دول الطوق والدول الغربية بإنهاء كل أشكال العمل العسكري؛ وذلك بتوقيع معاهدات سلام مع كيان يهود؛ ابتدأت باتفاق كامب ديفيد سنة 1978 بين مصر وكيان يهود. ثم اتفاق مدريد سنة 1990 ثم اتفاق أوسلو سنة 1993، ثم اتفاق وادي عربة 1994م. وأصبحت قضية فلسطين بعد هذه الاتفاقات والمعاهدات ضمن إطار الاتفاقات الدولية، وضمن مشاريع المفاوضات، وألغي المفهوم النضالي من قاموس الدول العربية ومنظمة التحرير الفلسطينية من أجل تحرير فلسطين من بحرها إلى نهرها.
7- لقد رسم الغرب مخططا جديدا سموه الشرق الأوسط الجديد - أو الكبير - وهو الذي دعت إليه وزيرة خارجية أمريكا كوندليزا رايس سنة 2006 في مؤتمر صحفي من تل أبيب. وأكده وزير خارجية أمريكا بومبيو في مؤتمر صحفي في جامعة القاهرة سنة 2019. وكان من أبرز الأمور في هذا المخطط الجديد بخصوص كيان يهود: ما يجري اليوم من مقدمات من الهرولة والتطبيع مع بعض دول المنطقة منها دول الخليج. وإيجاد اتفاقات عسكرية وتجارية مع تركيا وبعض الدول الأخرى. فقد جاء في نص خطاب بومبيو: "تعمل إدارة ترامب أيضاً على تأسيس التحالف الاستراتيجي للشرق الأوسط؛ لمواجهة التهديدات الأكثر خطورة في المنطقة، وتعزيز التعاون في مجالات الاقتصاد والطاقة. نحن نشهد أيضاً تغيراً ملحوظاً، فقد بدأت الروابط الجديدة تتجذر بشكل لم يكن مجرّد تخيله ممكنا حتى يومنا هذا. من كان يمكن أن يصدق قبل بضع سنوات أن رئيس الوزراء (الإسرائيلي) سيزور مسقط؟ أو أن روابط جديدة ستنشأ بين المملكة العربية السعودية والعراق؟ أو أن بابا روما الكاثوليكي سيزور هذه المدينة للقاء الأئمة المسلمين ورئيس الكنيسة القبطية؟".
وما زال موضوع الهرولة والتطبيع سائرا ومتجددا؛ وذلك كمقدمة لما يأتي بعده من إيجاد (الشرق الأوسط الكبير). وهذا المخطط يهدف إلى صياغة المنطقة من جديد؛ وفق معطيات سياسية جديدة، تقوم أولا على دمج كيان يهود في منظومة المنطقة السياسية والاقتصادية والعسكرية. أما السياسية فإيجاد منظمة شرق أوسطية بدل الجامعة العربية، وبدل منظمة المؤتمر الإسلامي؛ يكون كيان يهود جزءاً منها، وتحت إشراف دولي عن طريق الأمم المتحدة. وأما الاقتصادية فإيجاد ما يسمى (بالسوق الشرق أوسطية) المفتوحة، والتي دعت لها كونداليزا رايس في مقترحاتها سنة 2006. وأما العسكرية فهو ما دعا إليه بومبيو في جامعة القاهرة من إيجاد قوة عسكرية مشتركة من دول الشرق الأوسط والخليج.
يتبع...
رأيك في الموضوع