لقد بدأت الشعوب في البلاد الإسلامية وخاصة العربية منها تتعرف على هدفها بإشعال ثورتها ضد الأنظمة الجائرة، وهذا دلالة على ارتفاع وعيها وإدراكها؛ لأنها كانت قبل ذلك تضلَّل وتُحرف عن هدفها، فكان يجري التركيز على صلاح الفرد والأخلاق، وأن التغيير يحصل بتغيير أخلاق الفرد وتربية النفس وأن المشكلة كامنة في الفرد وفي نفسه فقط، وكأنه لا يوجد هناك نظام يحكمهم ويربطهم في علاقات، بل إن الأنظمة الحالية تجبرهم على علاقات وتصرفات تخالف ما في نفوسهم من حب لله ولرسوله والرغبة بتطبيق دينهم الحنيف.
فكان هناك علماء ومشايخ في خطاباتهم ومواعظهم ومقولاتهم وكذلك جماعات وجمعيات، يكررون هذه المقولة المغلوطة "أصلح الفرد يصلح المجتمع" ظانين بأن صلاح المجتمع بصلاح الفرد ويدعون الأفراد إلى أن ينشغلوا بأنفسهم وعيالهم، وأن لا ينشغلوا بالأنظمة والأفكار العامة وأن يتركوا الغيبة والنميمة بفضح خيانة الحكام وفسادهم ووجوب التغيير عليهم، بل عليهم أن ينشغلوا بتربية أنفسهم وتهذيبها بالأخلاق الحسنة وبذلك يصلح المجتمع! وكانوا يقولون ذلك إما بتوجيه من النظام الفاسد أو من دون وعي وإدراك لحقيقة المجتمع وكيفية التغيير والإصلاح. وهكذا أشغلوا الناس بتكرار الخطب والمقولات نفسها لعشرات السنين، والنظام ماض في غيه وضلاله وخياناته ويعمل على إفساد المجتمع وإفساد الأجيال بتطبيقه نظاماً يناقض الإسلام ونشره لأفكار الكفر وثقافته وتركيزه على المشاعر القومية والوطنية المخالفة للإسلام.
علما أن المجتمع هو عبارة عن نظام وأفكار ومشاعر وناس. فالفرد في المجتمع كاليد في الجسم، فالأفراد في المجتمع عبارة عن أجزاء لجسم واحد تربطهم أفكار واحدة ومشاعر واحدة ويسيّرهم نظام واحد؛ فتوجد العلاقات بينهم على هذا الأساس. والتغيير والصلاح لا يتحقق إلا بتغيير هذه الأفكار والمشاعر والنظام.
ولهذا كان توجه الناس نحو الأنظمة لإسقاطها وتغييرها نقطة وعي متقدمة، وكان لحزب التحرير الدور الرئيس والمهم في تنبيه الأمة وتوعيتها، وقد عمل كثيرا على توعيتها على هذه النقطة، فتصدى لظلم الأنظمة وفسادها وخيانة القائمين عليها وارتباطهم بالمستعمر وكشف خططه ومؤامراته، فأصدر كتبا وكتيبات عديدة ونشرات تكاد لا تحصى، وعقد مؤتمرات وندوات كثيرة، ولم يتوقف عن إعطاء الدروس الخاصة المكثفة والعامة والمحاضرات في سبيل تثقيف الأمة وتوعيتها، وقام شبابه باتصالات مع أبناء الأمة ووصلوا ليلهم بنهارهم بلا كلل ولا ملل؛ فكان له النصيب الأوفر من النجاح في التوعية والتوجيه في التحرك نحو التغيير بجانب نشر فكرة الخلافة وذلك بفضل من الله ورحمته.
ولكن الشعوب لم تع بالتمام بعدُ على نقطة أخرى مهمة، ألا وهي أن النظام ليس هو الحكام فقط، بل الفكرة التي تقوم بها وعليها الدولة، والدستور الذي تسيّر به شؤون الناس ويطبقه الحكام ويضبط سياساتها الداخلية والخارجية. فإذا لم تتبدل الفكرة ويتغير الدستور فإنه لن يتبدل شيء في الدولة، فحاكم يذهب ومثيله يأتي وهكذا، والنظام الفاسد قائم ولم يتغير. ولهذا يجب مواصلة التركيز على توجيه الشعوب نحو هذه النقطة، فكما نجحنا في توجيهها نحو الحكام الخونة والعمل على إسقاطهم يجب مواصلة توجيه الأمة نحو العمل لتغيير الفكرة التي تقوم عليها الدولة ويستند إليها الدستور الذي يحدد شكل الحكم والسلطات وصلاحياتها وعلاقاتها بالناس وواجباتها وحقوق الناس وواجباتهم. لأن الفكرة التي تقوم عليها الدول في البلاد الإسلامية هي العلمانية؛ فصل الدين عن الدولة، والدساتير صيغت على هذا الأساس، ولهذا نتج نظام فاسد وتولى الحكم رجال فاسدون. فهي أس البلاء ومصدر الشر في البلاد، ولهذا وجب مواصلة التركيز على عرض الفكرة الإسلامية كونها فكرة سياسية صحيحة ولا غير، وجعل الشعوب الإسلامية تتلقى الإسلام وتفهمه على هذا الشكل، وإن كان هذا أساس في عملنا منذ أن انطلقنا في حمل الدعوة في منتصف القرن الماضي، فيجب أن نواصل التركيز عليه. والدول الاستعمارية أدركت ذلك واتخذت من محاربة الإسلام السياسي كما أطلقوا عليه حجر الزاوية في عملها لمنع عودة الإسلام إلى الحكم، وركزوا على ذلك بعد أن سقط منافسهم الرئيس الاتحاد السوفيتي وسقطت معه الشيوعية، فأعلنوا ذلك صراحة في مؤتمر الأمن العالمي الذي عقدوه في ميونخ عام 1992 بأن العدو القادم هو الإسلام السياسي، أي كون الإسلام فكرة سياسية يمكن وصولها إلى الحكم وقيام دولة عظمى على أساسه وخاصة أن التاريخ يشهد على ذلك مدة 13 قرنا، وأكدوا ذلك في العديد من اجتماعاتهم ومؤتمراتهم وكتاباتهم وأفعالهم ورسموا سياساتهم حسب ذلك لمحاربته فأطلقوا عليه نعوتا من الأصولية إلى الراديكالية والتطرف وأخيرا الإرهاب. وقد رأينا مؤخرا كيف تقوم فرنسا وتحارب الإسلام كفكرة سياسية وأصدرت تعليمات تتعلق بذلك وأجبرت بعض من تعتبرهم ممثلين للمسلمين عندها على التوقيع على وثيقة تلزمهم بالتزام أسس الجمهورية أي العلمانية.
نعم إنه من أول نظرة ترى أن القائمين على الدولة هم الذين يأمرون وينهون ويغيرون ويبدلون، وأنهم مسؤولون عن كافة الأجهزة والموظفين فيها، وأنهم قادرون على تغيير الدستور. إذ كانت هناك خلافة ونظام حكم إسلامي فجاء المستعمر البريطاني واحتل عاصمة الخلافة إسطنبول عام 1918م، وقام مصطفى كمال صنيعة هذا المستعمر وبدعم منه بوضع دستور مخالف للإسلام يوم 5/2/1921م، ومن ثم أجرى عليه تعديلات بإعلان الجمهورية يوم 29/10/1923م، وبعدما تمكن من إلغاء الخلافة يوم 3/3/1924م، وبتخطيط ودعم من المستعمر أجرى تعديلات جديدة على الدستور مخالفة للإسلام يوم 20/4/1924م، ومن ثم قام وسحق كل من طالب بعودة الخلافة وخالف أفكاره واعترض على أفعاله الشنيعة، وبعدما تمكن من ذلك قام يوم 5/2/1937م فأزال المادة التي كانت في الدستور والتي تقول بأن "دين الدولة الرسمي هو الدين الإسلامي" والتي لم تكن تعني أن الدولة قائمة على أساس الإسلام وأن مصادر التشريع هي القرآن والسنة، وإنما كانت تعني أمورا شكلية تتعلق بالدين من طقوس ومراسيم والاحتفال بمناسبات دينية، ووضع مكانها فكرة العلمانية التي كانت موجودة ضمنيا منذ دستور عام 1921م. وأجرى العساكر الذين قاموا بالانقلابات تعديلات على الدستور في عامي 1961 و1982م ولكنها لم تغير شيئا في أساس الدستور، بل أكدته وعززته بعبارات لمنع تغيير هذا الأساس حيث يمنع تغيير الأساس العلماني الديمقراطي والنظام الجمهوري ويمنع الدعوة للخلافة، بل يمنع مجرد التكليف أو الاقتراح لتغيير هذا الأساس. وفي 16/4/2017م قام أردوغان وأجرى تعديلا بأن جعل النظام رئاسيا بدلا من النظام البرلماني، ولكن أساس النظام والدستور بقي على ما هو عليه من علمانية وديمقراطية وقومية ووطنية ونظام جمهوري بعيداً عن الإسلام كل البعد.
رأيك في الموضوع