عندما نقرأ عن تراجم علماء الأمة في شتى المجالات الدينية والدنيوية، فإنه يصيبنا الذهول من كثرة أسماء الكتب التي أنتجوها... هذا عن العلماء المشهورين، فما بالك بغير المشهورين، والذين هم وكتبهم أضعاف مضاعفة؟!
ونتساءل بعدها:
أين ذهبت كل هذه الكتب؟ وأين ضاع هذا التراث الفكري الهائل للأمة الإسلامية؟
ثم نقرأ في كتب الرحلات كابن جبير وغيره...
ونقرأ في كتب البلدان مثل نزهة المشتاق ومعجم البلدان وغيرها...
ونقرأ في كتب التاريخ أيضا كالبداية والنهاية والكامل وغيرها...
فنجد في هذه الكتب وصفاً عجيباً للمدن الإسلامية من الصين إلى الأندلس؛ فإن قرأت الوصف أصابك الذهول من تنظيم تلك المدن، وهندستها وقصورها وقلاعها ومساجدها وشوارعها وحماماتها ومنازلها...
ومؤلفو هذه الكتب كانوا شهود عيان، أو نقلوا عن شهود عيان، أي أنهم في كتبهم وصفوا واقعاً ملموساً محسوساً كان موجوداً، وليس أوهاماً وخيالات. ولكنك من شدة الذهول تظن أنهم يتكلمون عن مدن ليست من صنع البشر، بل من صنع جن سيدنا سليمان عليه السلام!
ثم نتساءل:
أين ذهبت تلك الحواضر حتى لا نكاد نرى إلا بقايا أطلال قليلة منها، لا تتناسب مع الكمية الهائلة التي قرأت عنها في تلك الكتب؛ ترى أين ضاعت تلك الكتب؟ وأين اندرست تلك المدن؟
ولعل الجواب يكمن في التاريخ نفسه؛ فقد تعرضت تلك الكتب وتلك المدن لنوعين من التدمير:
الأول هو التدمير الهمجي، وهذا كان من الخارج والداخل؛ فأما الخارج فحروب التتار والصليبيين وغيرهم، وأما الداخل فمثلاً في الأندلس قام الموحدون بإحراق كل الكتب التي تخالف أفكارهم، وربما كان في المشرق من هم على شاكلتهم ففعلوا مثلما فعل الموحدون.
وأما النوع الثاني من التدمير فهو التدمير الممنهج، وهذا حدث على أيادي الاستعمار الغربي، حيث إنه اتخذ تدمير المدن الإسلامية أو سرقة تراثها أو حرقه وسيلة لقطع صلة المسلمين بتاريخهم الإسلامي العريق.
ولكننا نتساءل أيضا:
لقد حدث في ألمانيا مثلما حدث للمسلمين تقريباً؛ فقد تم تدمير ألمانيا، وقامت أمريكا وروسيا وبقية أوروبا بسرقة كل إنتاجها التكنولوجي بل حتى علمائها، ولكن ألمانيا عادت فنهضت من جديد خلال سنوات قليلة من عمر الحضارات، فلماذا ألمانيا نهضت بينما المسلمون لم ينهضوا؟!
لعل الجواب يلخصه لنا مؤسس حزب التحرير وأميره الأول العلامة تقي الدين النبهاني رحمه الله في مقدمة كتاب "النظام الاقتصادي في الإسلام" حيث يقول:
"إن الأفكار في أية أمة من الأمم هي أعظم ثروة تنالها الأمة في حياتها إن كانت أمة ناشئة، وأعظم هبة يتسلمها الجيل من سلفه إذا كانت الأمة عريقة في الفكر المستنير.
أما الثروة المادية، والاكتشافات العلمية، والمخترعات الصناعية، وما شاكل ذلك فإن مكانها دون الأفكار بكثير، بل إنه يتوقف الوصول إليها على الأفكار، ويتوقف الاحتفاظ بها على الأفكار.
فإذا دُمِّرت ثروة الأمة المادية فسرعان ما يعاد تجديدها، ما دامت الأمة محتفظة بثروتها الفكرية. أما إذا تداعت الثروة الفكرية، وظلت الأمة محتفظة بثروتها المادية فسرعان ما تتضاءل هذه الثروة، وترتدّ الأمّة إلى حالة الفقر. كما أن معظم الحقائق العلمية التي اكتشفتها الأمة يمكن أن تهتدي إليها مرة أخرى إذا فقدتها دون أن تفقد طريقة تفكيرها. أما إذا فقدت طريقة التفكير المنتجة فسرعان ما ترتد إلى الوراء وتفقد ما لديها من مكتشفات ومخترعات. ومن هنا كان لا بد من الحرص على الأفكار أولاً. وعلى أساس هذه الأفكار، وحسب طريقة التفكير المنتِجة تُكسب الثروة المادية، ويُسعى للوصول إلى المكتشفات العلمية والاختراعات الصناعية وما شاكلها".
وبمعنى آخر، فإن الأمة عندما تم تدمير تراثها كانت في وضع سيئ من الانحطاط الفكري وعلى رأس هذا الانحطاط كان إغلاق باب الاجتهاد، فبقيت الأمة عاجزة عن تقديم الحلول لمشاكلها، ولم تستطع النهضة من جديد، بينما كانت ألمانيا محافظة على طريقتها المنتجة في التفكير وفي ضرورة أن يكون لها وجود مؤثر عالمياً أو على الأقل أوروبياً.
لأجل هذا كان على من يسعى إلى نهضة أمته، أن يولي الأفكار المنتجة اهتمامه بالدرجة الأولى، فالأمم تنهض بالأفكار المبنية على وجهة نظرها في الحياة.
بقلم: الأستاذ معاوية عبد الوهاب
رأيك في الموضوع