يوشك العام الثامن أن يمضي على انطلاق ثورة الشام المباركة، والتي كانت ضمن تحرك عارم تشهده أمة الإسلام، فيما بات يعرف "بالربيع العربي"، هذا التحرك نحو التغيير الذي انطلق من تونس مروراً بمصر واليمن وليبيا فالشام، ولن تكون السودان والجزائر آخر المطاف، كان بسبب الشعور المتعاظم بالظلم الذي وقع على هذه الأمة جراء تسلط زمر مجرمة كانت من مخلفات الكافر المستعمر، سلبت سلطان الأمة وأذلتها، وطبقت عليها أحكام الكفر وسامتها سوء العذاب على مدى عقود عدة.
لكن وبالرغم من التضحيات الجسام التي قدمتها الأمة في مسيرتها هذه، نحو التغيير والنهضة، نلاحظ بأن تحقيق التغيير المطلوب الذي تنشده الأمة يبدو صعب المنال، وذلك لعدم وعيها على أمر أساسي لتحقيق ذلك وهو اتخاذها القيادة السياسية الواعية المخلصة، صاحبة المشروع الواضح، التي تسير بالأمة ومعها نحو التغيير والنهضة المنشودين.
لقد كان لعدم اتخاذ الأمة، القيادة السياسية الواعية المخلصة بالغ الأثر في انتكاسة الكثير من التحركات التي حصلت في أكثر البلاد التي شهدت "الربيع العربي" فقد تم الالتفاف عليها واستُبدلت بوجوه الحكام السابقين، وجوها أكثر حقداً وقتلاً وإجراماً، كما هو الحال في مصر الكنانة، في حين نجد حال حكام تونس الجدد أكثر سفوراً في حربهم للإسلام وشريعته، بينما نرى أعداء هذه الأمة وأدواتهم من حكام العرب والعجم يعبثون بدماء وخيرات أبناء هذه الأمة في اليمن وليبيا والعراق، أما في الشام، فبينما كان النظام وأركانه يرتجفون من الخوف وهم ينظرون من نوافذهم في قلب العاصمة دمشق إلى تحركات المقاتلين التي وصلت على مشارف عقر دار النظام، وكاد النظام يتهاوى، لكن لعدم اتخاذ القيادة السياسية الواعية المخلصة، التي تدرك معالم الطريق الصحيحة لإسقاط الأنظمة، انقلبت الموازين بشكل دراماتيكي، فهجر الناس من حول دمشق، بل ومن المنطقة الجنوبية والوسطى، إلى الشمال، والمقاتلون في حالة ذهول مما حصل، وانقلبت حال النظام بعد أن كاد يلفظ أنفاسه الأخيرة.
فالجميع يدرك بأن ما حصل لم يكن البتة ناتجاً عن ضعف مادي في العتاد والعدة، أو تراجع في المشاعر الثورية لدى الناس، بل كان نتيجة لتحول الثورة من شعبية عارمة إلى فصائلية مقيتة، تحكمت بمفاصل الثورة فحرفت مسارها.
فقد أمسكت بالثورة منظومة فصائلية، تم تصنيع معظم قاداتها عن طريق مخابرات الدول المختلفة، أو شراؤهم بالمال السياسي القذر، فعملوا على تهميش الأمة التي احتضنتهم، والتي لولاها ما قامت لهم قائمة، بل وقاموا بما لم يستطع النظام المجرم نفسه القيام به، من اقتتال بغيض راح ضحيته الآلاف من شباب هذه الأمة، فضلاً عن خسارة العدة والعتاد، إضافة إلى إنشاء السجون السرية والمحاكم، فتحولت المناطق المختلفة إلى إمارات متنافرة، تتحكم في الناس بعقلية أمنية على شاكلة الأنظمة المجرمة فأدخلوا اليأس إلى نفوس الكثيرين بأن هذه الثورة لن تخلصهم من الظلم الذي خرجوا عليه، ذلك اليأس الذي لم يستطع أن يدخله إجرام النظام وحلفه من قصف وتدمير وتقتيل.
كما عملت هذه المنظومة الفصائلية على مصادرة قرار الناس الثائرين، وتنفيذ أجندات دول خارجية، فأدارت ظهرها للناس، وأصبح همها هو تلبية متطلبات الدول الداعمة أو المتحكمة، فعقدت الهدن والاتفاقيات السرية، بعيداً عن رأي الناس، فسلمت المناطق للنظام وحلفه، وتقدمت فلوله، بعد انسحابات المنظومة الفصائلية المكشوفة، وسط ذهول الناس مما جرى!
ولقد كان كل ذلك نتيجة لعقد الصفقات المشبوهة، والاشتراك بالمؤتمرات والمفاوضات المختلفة وقبولها أو الخضوع لها، ولعل أبرزها كان اتفاقيات خفض التصعيد التي تم بموجبها تسليم المناطق للنظام الواحدة تلو الأخرى. تلك المفاوضات التي أدارتها وحاكت خيوطها الدول التي ما انفكت تسوم أهل الشام سوء العذاب كروسيا وإيران من جهة أو التي تلجم الفصائل بالوعد والوعيد كتركيا في الشمال والأردن ومن خلفها في الجنوب من جهة أخرى.
أما الآن وبعد تجمع عشرات الآلاف من المقاتلين في المنطقة الشمالية، فإن أخطر ما مكرته هذه الدول هو اتفاق سوتشي، والذي من خلاله يريدون أن يكرروا السيناريو ذاته الذي نفذوه في المناطق الأخرى مع فارق بسيط، فحقيقة ما يحدث الآن في إدلب من قصف للمدن وتهجير للبلدات التي تقع على الطريق الرئيسي وشرقه، مع التزام المنظومة الفصائلية التي احتكرت السلاح والمواقع مع النظام، عدم الرد أو التصدي لهذا الإجرام اليومي، ليدل دلالة واضحة بأن هذه المنظومة الفصائلية لا تزال تقوم بنفس الدور القديم الجديد، وهو تنفيذ الاتفاقيات التي يعقدها أعداء هذه الأمة والتي لا تخدم تطلعاتها ولا هدفها ولا تحركها نحو التغيير والنهضة الذي لن يكون إلا بالعمل الجاد على إسقاط هذا النظام وإقامة نظام الإسلام.
فقد نسي هؤلاء أو تناسوا الهدف الأساس الذي قام له الناس وهو إسقاط النظام، فقد أصبحت أهدافهم، تنفيذ ما تريده الدول أو ما تمليه عليهم.
لكن الأمة الآن بحاجة إلى ثورة راشدة، تقوم على أمرها قيادة سياسية مخلصة واعية، صاحبة مشروع تحرير، منبثق عن عقيدتها، تعمل على قطع حبال الكافر المستعمر، من أنظمة الحكم الجبري العفن، التي بان عوارها وهرمها، وباتت مكشوفة مفضوحة للأمة من المحيط إلى المحيط.
فالأمة لم تمل من التضحيات أبداً فهي أمة التضحيات والفداء، وتاريخها يشهد بذلك، لكنها ملت من حكامها وأشباههم الذين يقتفون أثرهم في إذلالها. والقيادة السياسية المطلوبة في هذه المرحلة ليست قيادة حكم وسيطرة كما يروج البعض عن جهل أو عن مكر ليضلوا الناس ويلبسوا عليهم أمرهم، إنما هي قيادة إرشاد ودلالة، قيادة نصح وهداية، تسير مع الأمة وبها على الطريق الذي سيوصلها إلى مرضاة الله وتطبيق شرعه، تجنبها المهالك والشراك التي ينصبها لها أعداؤها من خلال ما تحلت به من وعي سياسي منذ انطلاقها، وليس أن ترهن رقاب الأمة لعدوها وتكبلها باتفاقيات مجرمة بحقها، تحول دون استعادتها لسلطانها المسلوب منذ عقود، بل يجب أن تكون كما وصف الله سبحانه قائد هذه الأمة بقوله ﴿لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ [سورة التوبة: 128]
بهذا فقط تستطيع الأمة أن تعبر هذه المرحلة الخطيرة من نهاية حقبة الحكم الجبري، وتقيم النظام الذي ارتضاه الله لها، نظام الإسلام العظيم، نظام الخلافة على منهاج النبوة، وعد الله عز وجل وبشرى رسوله الكريم e، الخلافة التي بدأت ملامحها تلوح بالأفق، وإرهاصاتها تتجلى يوماً بعد يوم، ﴿وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ [سورة يوسف: 21]
بقلم: الدكتور محمد الحوراني
عضو لجنة الاتصالات المركزية لحزب التحرير في ولاية سوريا
رأيك في الموضوع