انتفض أهل السودان في المدن والقرى والأحياء، انتفاضة سلمية تعبر عن رفضهم للظلم والطغيان، يرددون هتافات تندد بالنظام، وبتطبيقه لسياسات فاشلة، زادت من الفقر والبؤس والشقاء، وتردٍّ في كافة الخدمات التعليمية والصحية، وغيرها وفرض جبايات باهظة أدت إلى اشتعال نيران الغلاء حتى أصبحت الحياة جحيماً لا يطاق.
كانت نقطة البداية لهذا الحراك المبارك هي تفاقم الانهيار الاقتصادي، والإهمال، وسوء إدارة الموارد، حتى بلغ الأمر إلى استيراد الثوم من الصين في بلد يعرف بـ"سلة غذاء العالم". وزد على ذلك أنه إبان عهد "الإنقاذ" انفرطت وحدة السودان بفقدان ثلث أراضيه، وفقدان 75% من بتروله. ولم تقدم الحكومة أي سياسات لانتشال الوضع الاقتصادي لهذا الشلل الذي أصاب البلاد نتيجة لتراكم الظلم والفساد، وتكرار سياسات الفشل فلم ير أهل السودان من النظام الذي قاده لهذه الهوة المريعة غير "رقصة العصا" التي يتقنها البشير خلال ثلاثين خريفاً مضت، والتخبط السياسي الذي أوصل البلاد إلى ما نحن فيه.
كل هذا والحكومة تعترف بوجود هذه الضائقة المعيشية الخانقة، وبالممارسات الخاطئة، وبالوضع الاقتصادي المتردي، على لسان منسوبيها وعلى رأسهم البشير رغم خلو جعبة الحكومة من تقديم أي حلول، أو رؤى اقتصادية تعمل على انتشال الوضع المنهار، وتحقق شيئاً من الكرامة وهناءة العيش، رغم ذلك فهي ترفض التظاهر السلمي، والاحتجاجات من الشباب المكتوين بنيران الظلم، وتقابلهم بمليشياتها القمعية، فتطلق الغاز المسيل للدموع، تجاه المتظاهرين، بل أكثر من ذلك إطلاق الرصاص الحي على صدور المتظاهرين العزل، فيسقط القتيل تلو القتيل، وفي بعض الأحيان دهساً بالسيارات، كما حصل في منطقة الصحافة الخميس 24 كانون الثاني/يناير، حتى فاق عدد القتلى الخمسين قتيلا.
ومع دخول موجة الاحتجاجات أسبوعها السادس، فهي لا تزال سلمية وتزداد ثباتاً وتنظيماً، فهذا الحراك الاحتجاجي المتصاعد يمثل سابقة من حيث طبيعته وامتداده.
إن من يراقب مجريات الوضع في السودان عن كثب يتضح له بالفعل أن هذا الحراك السلمي العارم يمكن أن يشكل شرارة تغيير... وذلك ما يميزه من حيث استجابة الشباب للتظاهرات رغم القمع بالغاز المسيل للدموع، بل والرصاص الحي، إذ نرى صمود الشباب بصدورهم العارية يواجهون الرصاص الحي، غير آبهين بمآلات الأمور، فهذه إشارة إيجابية تبشر بانكسار حاجز الخوف، والتطلع إلى التغيير.
هذا الصمود جعل القوى السياسية تتحرك، حيث ألقى السيد الصادق المهدي، زعيم حزب الأمة القومي، بثقله خلف الحراك الذي تشهده البلاد منذ أكثر من شهر، وأعلن تأييده غير المشروط له، وطالب بتكوين "حكومة انتقالية" تخرج البلاد من أزماتها، أثناء خطبة الجمعة 25 كانون الثاني/يناير التي قدمها بعد صيام من الصمت الطويل منذ وصوله البلاد، في الشهر الفائت، فكأنه يريد أن يكون له دور في هذا الحراك، حيث أعلن المهدي أن الاعتصامات بالداخل والخارج مستمرة إلى أن يرحل النظام بكل تنظيماته مشيراً إلى أن الحكومة تتحمل كل ما حدث، وفقاً لما ذكره في خطبته. وأشار إلى توقيع حزب الأمة القومي لميثاق الحرية والتغيير الذي أطلقه تجمع المهنيين السودانيين.
أما على الصعيد الدولي فقد خرجت واشنطن وباريس وغيرهما من عواصم القرار، عن صمتها وأدانت القمع المستشري في السودان. كما أثار التعامل الحكومي الإجرامي مع التظاهرات انتقادات منظمات حقوقية دولية، فقد قالت سارة جاكسون مساعدة مدير منظمة العفو الدولية غير الحكومية لمنطقة شرق أفريقيا الجمعة إنها "مأساة أن تواصل قوات الأمن السودانية استخدام القوة المميتة ضد المتظاهرين ومقدمي الخدمات الرئيسية مثل الأطباء". وكذلك الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين يدعو حكومة السودان لحماية حق التعبير السلمي (موقع عربي 21). أيضاً انتقدت بريطانيا ما وصفته بالاستخدام "غير المقبول" للقوة القاتلة من قوات الأمن ضد المتظاهرين، ودعت إلى محاسبة المسؤولين عن قتل المتظاهرين، كما حثت أمريكا الخرطوم على احترام حرية التعبير، ودعت إلى الإفراج عن محتجين وناشطين. (فرانس 24). كما أعلن المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية، روبرت بالادينو، الأربعاء، أن بلاده تؤيد "المطالب القانونية" للمتظاهرين في السودان. وقال بالادينو للصحفيين "الولايات المتحدة منزعجة بسبب ازدياد الاعتقالات والاحتجازات، وأيضا أعداد المصابين والقتلى في السودان.. الولايات المتحدة تؤيد حق الشعب السوداني في التجمهر السلمي والمطالبة بالإصلاح السياسي والاقتصادي". وقالت المتحدثة باسم الخارجية الفرنسية آنييس فون در مول: "ندعو السلطات السودانية إلى اتخاذ كل التدابير الضرورية لوضع حد للعنف ضد المتظاهرين المسالمين وملاحقة مرتكبي أعمال العنف هذه". (موقع السودان اليوم الإلكتروني).
ووسط هذا الحراك المشتعل فجأة سافر البشير يوم 27 كانون الثاني/يناير إلى مصر في زيارة لم يعلن عنها مسبقاَ، ومن قبل إلى قطر، فهناك استفهامات ستكشف عنها الأيام القادمة.
إن هذا الحراك يبشر بخير كثير، وفيه دلالات على أن الروح النضالية لدى الشباب عالية والرغبة في التغيير جامحة، والثبات أمام القوة القمعية دلالة على كسر حاجز الخوف، في سبيل تحقيق التغيير.
فقط تحتاج هذه المظاهرات إلى توجيه البوصلة لتسير في الاتجاه الصحيح، وفق مخطوط هندسي واضح يبين كيفية المخرج في تصور دقيق عن النظام البديل، بعد أن أصبح سقوط النظام في السودان قاب قوسين أو أدنى، فما هو النظام البديل؟ إن الخطوة القادمة تحتاج إلى وعي وفهم وحزم، حتى لا تنقاد البلاد إلى نفس التجارب القديمة الفاشلة التي زادت من الدمار والانهيار المريع وانسياق البلاد وانزلاقها في هوة الأنظمة الغربية التي هي ارتهان للنظم الرأسمالية الاستعمارية.. فيجب الوعي على البديل لأن النظام يجب أن يكون على أساس عقيدة الثائرين، ومن ورائهم أهل القوة والمنعة، الذين يجب عليهم مساندة المشروع العقدي المبرئ للذمة أمام الله سبحانه يوم القيامة، فلا ديمقراطية ولا جمهورية ولا أنظمة وضعية تحل مشكلتنا، فهذا مجرب ومشاهد بالحس، وباطل بالشرع، فالواجب هو إعادة شرع الله ونظام الإسلام في دولة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة، المطبقة لشرع الله الحافظة لبيضة الإسلام والمسلمين. اللهم اجعل ذلك قريباً.
بقلم: الأستاذ سليمان الدسيس (أبو عابد)
عضو مجلس حزب التحرير / ولاية السودان
رأيك في الموضوع