بتوغّل الحضارة الغربيّة في بلاد المسلمين أصبحت الحياة الأسريّة مبنيّة على خليط من القيم المتضاربة والمتعارضة ما أدّى إلى نشأة الأبناء نشأة مضطربة جعلتهم يحيون مذبذبين بين قيمهم الإسلاميّة التي تربّوا عليها في أسرهم وبين التّقاليد والعادات غير الإسلاميّة التي فرضها واقعهم الذي تسيطر عليه الحضارة الغربيّة بمفاهيمها العلمانيّة.
ينشأ أبناؤنا اليوم في ظلّ أحكام الرّأسماليّة بشخصيّتين متضاربتين؛ فيتربّى الكثير منهم على أنّ أحكام الإسلام إنّما هي عادات وتقاليد، ولا يرسّخ فيهم الآباء العقيدة ترسيخا عقليّا مبنيّا على الحجج والبراهين لتكون لهم قاعدة فكريّة ترتكز عليها مفاهيمهم... قيادة يهتدون بها في أفعالهم وتكون لهم البوصلة التي ترشدهم إلى الطّريق القويم. تربّى الأبناء وهم يفتقرون إلى فهم دينهم فهما صحيحا؛ ما جعلهم عرضة لعوائق وصعوبات يحسبون أن الإسلام وأحكامه سببا فيها! وبدل أن تكون قيم الإسلام العظيم مصدر اعتزازهم وافتخارهم صارت للأسف سببا لخجلهم واحتقارهم!
خطأ فادح وخطير ما يقوم به الآباء حين يربّون أبناءهم بلا قاعدة فكريّة صحيحة يبنون عليها جميع الأفكار ويفهمون الغاية من وجودهم، قاعدة تحدّد لهم وجهة نظرهم في الحياة ليكونوا شخصيّات إسلامية قويّة ثابتة لا تهزّها رياح الحضارة الغربيّة العاتية فيقفوا أمامها ورؤوسهم شامخة معتزّين بما لديهم من مفاهيم راقية لا تضاهيها أيّة مفاهيم أخرى. يشقّون طريقهم بثبات متيقّنين أنّهم من خير أمّة أخرجت للنّاس وأنّهم لن يكونوا أعزّاء إلّا بالإسلام، وأنّ أحكامه فقط هي الصالحة لنهضتهم وتسيير حياتهم.
يتعرّض أبناؤنا إلى حملة شرسة شنّها عليهم الغرب الكافر بحضارته الفاسدة التي ما فتئت تعمل لصرفهم عن دينهم ومفاهيمه، فسخّر لذلك كلّ الوسائل حتّى يجتثّهم من جذورهم ويدخلهم جحر الضّبّ صاغرين. أتاهم من كلّ جانب: أفسد مناهج التّعليم بعلمانيّته العفنة وشوّش تفكيرهم ونشر الفاحشة بينهم، ووظّف الإعلام بأنواعه لخدمة أغراضه الخبيثة... اختلطت المفاهيم على أبنائنا فصاروا تائهين ضائعين لا يعرفون السّبيل للعيش الهنيء الصّحيح الذي يلمسون فيه الرّاحة والطّمأنينة.. يقذف بهم تيّار العلمانيّة وسط أمواج بحر جارف خطر وهم يحاولون جاهدين التّمسّك بأحكام دينهم جزعين خائفين أن يخسروا رضوان ربّهم كما علّمهم آباؤهم. يصارعون ويتصارعون مع واقع يدفعهم عن دينهم ويجذبهم إلى الحياة اللّيبراليّة "الحيوانيّة" التي تطلق العنان للغرائز.
أمام هذه الحرب الضّروس التي تستهدف أبناءنا يتحتّم على الآباء العمل لصدّ هذه الهجمة الشّرسة التي تجعل من أبنائنا وفلذات أكبادنا هدفا لها ولمخطّطاتها، وعليهم مضاعفة الجهود لتنشئة الأبناء على أسس متينة قويّة توجد في أنفسهم وعيا وثقة كبيرين بصحّة الإسلام وبأنّه هو طوق النّجاة وسبيل الفوز برضوان خالقهم حتّى يشعروا بالطّمأنينة والأمان فيحيوا متمسّكين بالإسلام وأحكامه ويعملوا على أن يكونوا ذوي شخصيّات إسلاميّة تسعى لنصرة هذا الدّين وإعلاء كلمته. فحتّى نحصل على الثّمرة لا بدّ من رعاية النّبتة والاهتمام بها ومدّها بكلّ ما تحتاجه ودفع الضّرر عنها ولا نكتفي بالأرض الصّالحة فحسب! وكذا أبناؤنا ورغم سعينا لتنشئتهم النشأة الصالحة على قيم الإسلام فإنّ علينا أن نحميهم ونجنّبهم المخاطر التي تتهدّد صلاحهم ونحصّنهم بمفاهيم دينهم حتّى يتصدّوا لحملات تغريبهم ومن ثمّ تغييبهم عن أمور حياتهم وعن وجوب العمل لتغيير واقعهم الفاسد.
أن يحيط الأهل الأبناء بالرّعاية والاهتمام والعناية وينشئوهم نشأة سليمة صحيحة قائمة على غرس المفاهيم الإسلاميّة فيهم فهو ما يمنح هؤلاء الثّقة في النّفس والاعتزاز بدينهم. كما أنّ تعليمهم سيرة نبيّهم وما فيها من قيم رفيعة ليقتدوا به وبما دأب عليه صحابته الكرام يقوّيهم ويشدّ أزرهم... فعلى الآباء أن يثبّتوا في الأبناء أنّ الحياة التي تقوم على مبدأ الإسلام وقيمه هي طوق نجاتهم وهي سبيل نجاحهم ﴿رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَاراً﴾ وأنّه على كلّ مسلم أن يستمدّ ثقافته ومفاهيمه من الإسلام وحده ولا يرجع لغيره من الثّقافات الأخرى لأنّه لا توجد مفاهيم أصلح وأفضل ممّا جاء به شرع ربّنا.
أوجب الله سبحانه وتعالى على المسلمين الالتزام بالإسلام وكذلك حمله والدّعوة إليه... لذلك نهى عن التّقوقع على النّفس والأهل وهجر الآخرين وعدم الاهتمام بهم قال عليه الصلاة والسلام: «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ». فمن يفهم الإسلام عليه أن يتقيّد به داخل البيت وخارجه فهو دين الجماعة لا الأنا، دين يجعل الإنسان راقيا محبّا للآخرين يذوب فيهم ويعمل معهم بأحكام دينه العظيم حتّى ينجو وإيّاهم من النّار ويرضوا ربّهم ويفوزوا بجنّته. بهذا تتوفّر البيئة السّليمة لحياة أساسها الإسلام فتجنّبنا وأبناءنا حياة الاضطراب والتّناقض التي نعيشها في ظلّ هذا النّظام الرّأسماليّ الظّالم الذي يسعى لإقصاء ديننا عن حياتنا فنحيا بعيدين عنه. وكيف يمكن للمسلم أن يحيا بعيدا عن ربّه؟! ﴿قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾.
منذ سقوط دولتها وغياب تطبيق أحكام ربّها فيها صارت الأمّة الإسلاميّة تحيا في ديار كفر تنفّذ فيها سياسات الغرب وأحكامه الوضعيّة التي شملت كلّ ميادين الحياة، فصار المسلمون يعيشون بمفاهيم الكفر التي لا ترعى فردا ولا أسرة ولا مجتمعا! مفاهيم أساسها النّفعية فصار الولد يرمي بوالديه في مأوى العجّز، وتعنّف الفتاة والدتها وتعتبرها متخلّفة غير مواكبة للعصر!! مؤسف ما يعانيه بعض الآباء من عقوق أبنائهم الذين تشبّعوا بمفاهيم الغرب وتلاشت قيم دينهم شيئا فشيئا في غيوم حضارته الفاسدة المفسدة ونسوا أمر الآخرة... غاب عنهم ما للمعاملة الحسنة لوالديهم من أجر عظيم، يقول عليه الصّلاة السّلام: «رَغِمَ أَنْفُهُ ثُمَّ رَغِمَ أَنْفُهُ ثُمَّ رَغِمَ أَنْفُهُ». قِيلَ: مَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «مَنْ أَدْرَكَ وَالِدَيْهِ عِنْدَ الْكِبَرِ أَحَدَهُمَا أَوْ كِلَيْهِمَا ثُمَّ لَمْ يَدْخُلْ الْجَنَّةَ». (مسلم).
انتشرت المنكرات في صفوف أبناء المسلمين: خمر ومخدّرات وميسر وزنا وشذوذ... بتشجيع من قوانين هذا النّظام وحرّيّاته التي رفع شعاراتها الباطلة في كلّ المناسبات. كيف لا وقد حزم الغرب أمره على صرف المسلمين عن دينهم وصهرهم بمفاهيمه العلمانيّة ومنع الآباء من تربية أبنائهم تربية إسلامية لترقى بهم وترضي عنهم ربّهم! تربية نقيّة نقاء مفاهيم الإسلام وصفاءها.
أوجد الإسلام بمفاهيمه الرّاقية علاقات قويّة ربطت أفراد الأسرة وجعلتها تقوم على أساس المودّة والاحترام والثّقة والعناية المتبادلة بين الآباء والأبناء ما يجعل المجتمع متماسكا ناهضا يعمل على نشر هذا الخير بين المجتمعات الأخرى لتحيا مطمئنّة بهذه الرّحمة التي بعث الله بها رسوله e. فلقد أودع الله في قلوب الآباء حبّا وحنانا ورحمة ورأفة حتّى يبذلوا قصارى جهودهم ليربّوا أبناءهم تربية صالحة سليمة وحتّى يضعوهم على الدّرب الذي يرضي ربّهم فيعملوا ويكونوا فاعلين في مجتمعاتهم. وحثّ الأبناء على طاعة آبائهم وبرّهم واحترامهم وأمرهم بالعطف عليهم عند الكبر، ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا﴾.
حين نتأمّل حال أمّة الإسلام خير أمّة أخرجت للنّاس وما آلت إليه نتيقّن أنّ ذلك مردّه أنّها بعدت عن دينها وفرّطت في مصدر عزّها ومجدها؛ "نحن قوم أعزّنا الله بالإسلام فإن ابتغينا العزّة بغيره أذلّنا الله"، وعلى الآباء توضيح ذلك للأبناء وجعلهم يعون قضيّتهم المصيريّة التي لا بدّ أن يحلّوها وأن يعملوا دون كلل ولا ملل حتّى ينالوا المبتغى ويحقّقوا الهدف المنشود "خلافة على منهاج النبوّة"، يومئذ تحلّ مشاكلهم ويتمكّنون من العيش دون انفصام في شخصيّاتهم؛ يعيشون بمفاهيم منبثقة عن عقيدتهم التي اعتنقوها سعداء بما وعدهم الله من نصر وتمكين...
﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾
بقلم: الأستاذة زينة الصامت
رأيك في الموضوع