تدخل ثورة الشام عامها الثامن في ظل أوقات عصيبة مخضبة بالدماء التي يعيشها أهل الشام هذه الأيام، وخاصة في الغوطة الشرقية المحاصرة التي يراد لها أن تستنسخ سيناريو حلب، مع تكرار الأسباب نفسها التي خسرنا بسببها حلب، في مشهد تتفطر له القلوب وتشيب له الولدان؛ حرق وتدمير وتهجير، وآلاف من الحمم والقذائف، وقصف بشتى أنواع الأسلحة "المحرّمة" المفضلة دولياً، وحصار فوق حصار، وتمزيق الغوطة نفسها إلى أجزاء، وارتفاع عدد الشهداء وتناثر أشلاء الأبرياء، وحركة نزوح قسري لعشرات الآلاف ممن افترشوا الأرض والتحفوا سماءً ماطرة بالرصاص وهواءً تلوثه الأسلحة الكيميائية التي استخدمها النظام بضوء أخضر أمريكي أممي للمرة الخامسة في أقل من أسبوعين... كل ذلك على مرأى ومسمع العالم المتخاذل منه والمتآمر، وصمت الناس والفصائل في باقي المدن المحررة وكأن الأمر لا يعنيها أو كأن الدور لن يصل يوماً إليها، وما كان سلاحها ليصدأ ولا بنادقها لتخرس لولا سحر أموال الداعمين القذرة التي أوردتنا المهالك. وثالثة الأثافي ما أعلنته فصائل الغوطة في بيان مشترك من استعداد لإجراء مفاوضات مباشرة مع روسيا في جنيف، تحت رعاية الأمم المتحدة، مؤكدةً "التفاعل الكامل لتنفيذ القرارات الأممية والانخراط الكامل في العملية السياسية"!
أعداؤنا يرموننا عن قوس واحدة، ولا غرابة، سواء من جاهر منهم بالعداء أو لبس ثوب الأصدقاء. فالنظام ومن ورائه الروس بطائراتهم وبوارجهم ومليشيات إيران وحزبها في لبنان يتقاسمون أقذر الأدوار على الأرض، ودعم أمريكي سافر لنظام الإجرام عبر الضغط على فصائل الجنوب لالتزام الصمت و"ضبط النفس" ريثما ينهي النظام مهمته في اقتحام الغوطة، أما القوات التركية وأرتالها المتحركة في الشمال، فما إن أخذت مواقعها في مناطق معينة في الداخل السوري دون غيرها بحجة مراقبة "خفض التصعيد" ودفعت بالفصائل المرتبطة بها المنشغلة ببسط السيطرة والنفوذ لإشعال نار الاقتتال فيما بينها وسفك الدم المحرم في هذا الوقت الحرج بالذات، حتى سحب النظام أرتاله، متبختراً مطمئناً، من حماة وما حولها نحو الغوطة الجريحة للبطش بأهلها لإعادتهم إلى حظيرة الطغيان من جديد، مع نشاط دائم للمكر الأردوغاني الذي بات لا يبدأ حملة عسكرية في الشمال إلا بالتزامن مع حملة مسعورة مقابلة لنظام أسد بغية قضم مدينة محررة جديدة، وبات على كل لسان أنه كما كانت حلب مقابل مدينة الباب أيام درع الفرات، كذلك فإن "غصن الزيتون" وعفرين مقابل الغوطة وغيرها مما يردده الناس عن شرقي السكة وغربها، أما آلاف المقاتلين الذين سحبهم أردوغان إلى عفرين فهذا دورهم المنوط بهم دون أن يعلموا أن الدور لا بد يوماً قادم إليهم إن كان فيهم بقايا عزة!
وإمعاناً منه في النفاق وتنفيذ ما يمليه عليه ساسة البيت الأبيض، فقد عبر أردوغان، كدأبه دوماً، عن استعداده لاستقبال من تبقى من أهالي الغوطة، وهو الذي على دمائهم وأشلائهم يقتات عرشه وسلطانه المخضب بدماء الأبرياء الذين يشكون إلى الله من قتلهم ومن خذلهم.
كما كان لأحداث عفرين وما سببته من ضغط اقتصادي هائل على الناس من حصار وغلاء متعمد في المحروقات الأثر الكبير في نفوس الناس الذين يراد لهم أن يصلوا إلى مرحلة من اليأس والقنوط ومعاناة شظف العيش ليكونوا مهيئين للقبول بما يمليه علينا أعداء الإسلام، والرضا بالحل السياسي الأمريكي الذي يبقي المؤسسات الأمنية والعسكرية جاثمة على صدور العباد مع تغيير شكلي في الوجوه الكالحة المجرمة لا غير.
ولا يفوتنا التذكير بالخدمات الجليلة التي قدمتها الهدن الكارثية (من طرف واحد) لصالح نظام الإجرام، والتي كانت متنفسه كي يسحب أرتاله ويستفرد بالمناطق واحدة تلو الأخرى ويقضمها تباعاً وسط استخذاء من أسكرتهم أموال الداعمين من قادة و"شرعيين" باتوا سبَّةً ولعنةً على الثورة وأهلها إلا من رحم ربي، وهم من حاولوا القيام ببعض المعارك الاستعراضية تنفيساً لمشاعر الأمة الغاضبة ونفوس أبنائها المحتقنة.
ونخاطب هنا المخلصين من إخواننا في الفصائل أنكم بيضة القبان إن حملتم الأمانة بحق، وإن سكوتكم عن ارتباط قادتكم هو الذي يبدد جهودكم وعظيم تضحياتكم ودماء مليون شهيد من أعز أحبابكم، فالله الله في دينكم وعرضكم ودماء شهدائكم كي تلقوا الله يوم القيامة بصحائف عز بيضاء وهو عنكم بإذن الله راض.
وختاماً، فإننا نؤكد، بعد كل ما سبق، أن الكرب شديد بحق وأن القادم أعظم ما لم يتدارك مخلصو أهلنا الموقف، فيأخذوا على أيدي الظالمين والمجرمين الذين أوصلوا ثورتنا إلى ما وصلت إليه؛ ليضبطوا البوصلة من جديد ويصححوا المسار ويلتزموا بثوابت ثورة الشام ويلتفوا حول مشروع سياسي واع ومخلص من صميم عقيدتنا، يسير بالأمة ومعها بثقة وثبات نحو إسقاط النظام وإقامة حكم الإسلام، قبل أن يأتي يوم نبكي فيه دماً، يوم لا ينفع بكاء أو نحيب على أطلال ثورة نعوذ بالله أن نفرط بها. ونؤكد أيضاً أن نصرة الحق وأهلهشرف عظيم لا يحوزه إلا رجال يرفعون الصوت عالياً، يبيعون أنفسهم لله، يبايعونه على ما يرضيه سبحانه من خلع ثوب الركون والمهانة ومن تسبب بها من قادة الضرار، والسير بخطا ثابتة لضرب النظام في عقر داره كي تعود غوطة الشام من جديد عقراً لدار الإسلام ولو كره المجرمون، بعد توحيد الجهود خلف قيادة سياسية تتقي الله في دين أهل الشام ودمائهم، وتسير بهم إلى حيث عزهم ورفعتهم، لعل الله يرضى بذلك عنا فينصرنا بفضله، فهو القائل في محكم التنزيل: ﴿فَانتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ وهو القائل سبحانه: ﴿وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ﴾.
بقلم: الأستاذ ناصر شيخ عبد الحي
عضو لجنة الاتصالات المركزية لحزب التحرير في ولاية سوريا
رأيك في الموضوع