أعلن كل من وزير خارجية أمريكا جون كيري ووزير خارجية روسيا سيرغي لافروف التوصل إلى اتفاق حول الأعمال العسكرية في سوريا، أما ما أفصحا عنه من بنود الاتفاق، فمنه: يمتنع نظام الأسد عن القيام بأية أعمال قتالية في المناطق التي تتواجد فيها المعارضة المعتدلة والتي سيتم تحديدها بدقة، ويمتنع الطرفان عن شن هجمات وعن محاولة إحراز تقدم على الأرض على حساب الطرف الملتزم بوقف إطلاق النار. وينسحب الطرفان من طريق الكاستيلو شمال مدينة حلب والتي تعتبر طريق إمداد رئيسية، وإيجاد منطقة منزوعة السلاح في محيطها. ويتعهد الطرفان بالسماح بعبور المدنيين والمساعدات والحركة التجارية عبر منطقة الراموسة جنوب غرب حلب. وبعد مرور سبعة أيام على تطبيق وقف الأعمال القتالية وتكثيف إيصال المساعدات، تبدأ الولايات المتحدة بالتعاون مع روسيا العمل على هزم تنظيم الدولة وجبهة فتح الشام. ويتم تنسيق ضربات جوية مشتركة بين روسيا والولايات المتحدة، كما تنحصر العمليات الجوية في المناطق التي سيتم تحديدها للعمليات المشتركة الروسية الأمريكية بالطيران الروسي والأمريكي ويمنع على أي طيران آخر التحليق فيها.
وبعد ساعات من إعلان اتفاق الهدنة، قامت الطائرات الحربية الروسية بشن غارات مكثفة على أحياء حلب الشرقية، حيث أعلن ناشطون عن استشهاد 45 مدنيا نتيجة غارات استهدفتهم في منازلهم أثناء تحضيراتهم لعيد الأضحى، كما ارتكبت مجزرة أخرى في سوق مدينة إدلب التي ارتفعت حصيلتها إلى نحو 60 شهيدا، إضافة إلى عشرات الجرحى، بحسب المرصد السوري لحقوق الإنسان.
ولم يعد شيئا يحتاج لتحليل وإنعام نظر لمعرفة أن الخطوات التي تقوم بها أمريكا في سوريا تريد منها الحفاظ على بقاء النظام والقضاء على الثورة، فالبنود المعلنة من اتفاقية الهدنة تضمن استمرار العمليات التي يقوم بها النظام والمليشيات الإيرانية وذلك لأن الهدنة تختص بما تصنفه أمريكا "المعارضة المعتدلة" فقط، وهذه سيجري تحديد أماكنها "بدقة"، كما أن تطبيق الهدنة يعني وقف الأعمال العسكرية التي يقوم بها الثوار لفك الحصار عن المناطق المحاصرة، وهذا يعني بقاءها تحت الحصار، والاكتفاء بإدخال مساعدات إنسانية، يضاف إلى ذلك أن روسيا وأمريكا ستبدآن عملية عسكرية مشتركة لضرب ما يسميانه حركات "إرهابية" بما فيها جبهة فتح الشام "النصرة سابقا"، ويشمل هذا الجماعات التي تتعاون معها، وهذا يعني تفكيك المعارضة، وإضعافها، إذ إن النتائج اللافتة التي تم تحقيقها من قبل الثوار عند فك الحصار عن حلب لم تكن حصيلة جهد فصيل وحده، وإنما حصيلة اجتماع جهود معظم الفصائل، وما حصل لاحقا من عودة الحصار على حلب بعد ما شهدته حلب من انتصارات ملحمية للثوار، إنما يعود لأعمال قامت بها أمريكا وأذنابها من أجل تفكيك هذه الفصائل، منها: دخول تركيا على خط المعارك في شمال سوريا واستدعاؤها للفصائل المرتبطة بها، حيث أسفر ذلك عن انسحاب أعداد كبيرة من المقاتلين باتجاه المشاركة في معارك جرابلس، كما تزامن ذلك مع فتح بعض الفصائل جبهة حماة وتحقيقها لانتصارات سريعة ساهمت في إضعاف جبهة حلب، مع ما رافق ذلك من إسراع مايكل راتني المبعوث الأمريكي بالإعلان عبر رسالة موجهة للفصائل المسلحة عن التوصل إلى اتفاق مع روسيا، يتعلق بمعبر الكاستيلو وطريق الراموسة، باعتبارهما مناطق منزوعة السلاح مما أشعر بعض الفصائل بأن كلفة المحافظة على مكاسب الثوار في الراموسة ستذهب سدى، مقابل المكاسب المتوقعة في حماة، وما أن أعاد النظام السيطرة على طريق الراموسة حتى أعلنت أمريكا أنه لم يتم التوصل إلى اتفاق مع روسيا وأن الأمر يحتاج لمزيد من المباحثات، فمنح ذلك كله النظام فرصة إعادة إحكام الحصار على حلب!.
ومن المهم التذكير هنا بأن ما يقع من مباحثات بين أمريكا وروسيا ليس من جنس المباحثات بين مختلفين، لأن روسيا لم تدخل سوريا إلا بناء على طلب من أمريكا وتفاهم معها، وما يجري بينهما من مباحثات هدفه التوصل إلى نتائج متفق عليها مسبقا، ويقتضيها تطور الأحداث في مسرح العمليات في سوريا، ومن يدير العملية برمتها هو أمريكا فقط، وروسيا خادم لها فيما تريد، مع احتفاظها بهامش لضمان المكتسبات.
وقد تكرر في مشهد الأحداث في سوريا أن أمريكا تلجأ لإعلان التوصل إلى هدنة بين حين وآخر كلما رأت سير العمليات قد ينقلب ضد النظام، وهذه الهدنة لا تخرج عن سابقاتها، فقد أوقفت أمريكا الهدنة عندما فك الثوار حصار حلب وحققوا نتائج مبهرة ثم أعلنت عنها بعدما أعاد النظام حصارها، وهكذا تفعل كلما تقلبت الأحداث!
وقد أوضح لافروف عند حديثه عن الاتفاق بأنه (لا يمكن لأحد ضمان احترام الاتفاق وتطبيقه بأكمله..) وهذا يعني أن من سيتوقف عن القتال هم فقط المعارضة بينما ستبقى أمريكا وروسيا والمليشيات الإيرانية تقوم بأعمالها القذرة بالمبررات المنصوص عليها في الهدنة، وقد قال لافروف أيضا بأنه (لا يستطيع الكشف عن تفاصيل أخرى حول هذه الخطة لأنها تحتوي على "معلومات حساسة، لا نريد أن تصبح في أيدي أولئك الذين سيحاولون، بالتأكيد، عرقلة تنفيذ الإجراءات المنصوص عليها في البنود المتعلقة بمسألة المساعدة الإنسانية، وفي غيرها من بنود اتفاقنا".) (روسيا اليوم، 10/9/2016)، ما يعني أن ما يخفيه الاتفاق من بنود أخطر مما تم الكشف عنه بكثير. كما أن من سيقبل بالانضواء تحت هذه الهدنة المزعومة سيوافق على بنود وردت فيها ولم يعلن عنها ولا يعلم عنها، فهل يقبل عاقل بذلك، إلا إذا كان مسلوب الإرادة أو أن تكون إرادته مرتهنة لمال الداعمين؟!
وعلى الرغم من هذا كله فإن أسلوب الهدن لم ينجح فيما سبق ولا يتوقع له أن ينجح هذه المرة أيضا، فالخطوة التي سارت عليها أمريكا هذه المرة يبدو عليها القلق والتردد، وهذا ما تدل عليه مهلة اليومين ثم الأسبوع، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
رأيك في الموضوع