مع سخونة الأجواء وارتقاء الشهداء في فلسطين أصبحت مفتوحة على أكثر من هبة شعبية، مما أقلق أطراف اللعبة السياسية جميعا، وخصوصا أمريكا، التي تريد المنطقة ساكنة لأكثر من سبب، فجاءت التحركات الدبلوماسية لوزير الخارجية الأمريكي جون كيري، وعقد لقاءاته المنفردة مع نتنياهو وعباس والملك الأردني. وهذا المقال يحلل مبعث ووجهة تلك التحركات الأمريكية، وتأثيرها على مستقبل الحراك المتفجر في فلسطين.
بداية لا بد من التأكيد أن الباعث لتلك التحركات الأمريكية هو غضبة شباب فلسطين وأطفالها، كردة فعل عفوية على العدوان اليهودي على المسجد الأقصى ومحاولة تنفيذ تقسيمه الزماني ثم المكاني، ثم تكرار مشاهد الإعدامات الميدانية بدم بارد. ولولا ذلك ما كانت أمريكا لتحرك ساكنا في الوقت الراهن حول قضية فلسطين للأسباب التالية:
- تركيزها على إطفاء الحرائق الناتجة عن التقلبات والعواصف الإقليمية: منها السخونة الشديدة في الملف السوري، وعصف الملف اليمني، واضطراب الملف الليبي.
- مرور أمريكا بحالة البطة العرجاء في سنتها الانتخابية التي دخلتها، والتي تجمّد فيها الملفات السياسية الخارجية إلا ما كان منها ملحا.
- تعنّت حكومة نتنياهو أمام التحركات الأمريكية، والعمل على إفشال أو تأخير أي تقدم نحو حل الدولتين الأمريكي لتناقضه مع الرؤية التلمودية لحزب الليكود الذي يصر على السيطرة الكاملة على فلسطين.
- وجود أزمة دبلوماسية بين أوباما ونتنياهو، يمكن أن توصف أنها أدخلت أوباما في حالة إحباط ثانية بعد إحباطه الأول قبيل انتهاء فترة رئاسته الأولى.
لذلك كله، جاءت تحركات أمريكا تحت ضغط الواقع لا بمبادرة ذاتية، وهي لإطفاء الحريق وتخفيض درجة الحرارة لا العلاج وتغيير الوقائع على الأرض. ولذلك أعلن كيري قبيل لقاءاته أنه "يعمل على تهدئة العنف بين الفلسطينيين والإسرائيليين" (سكاي نيوز عربية 14/10/2015).
أما من جهة الكيان اليهودي، فمن الواضح أن الهبة والغضبة المخلصة قد أجبرته على مراجعة أجندة حكومته الليكودية والتلمودية، فأخذ يتراجع عن التصعيد في المسجد الأقصى، وأبدى نتنياهو نوعا من التجاوب خلال اجتماعه مع كيري، وذلك في حدود إبقاء الوضع على ما هو عليه، وزاد قليلا بالسماح بكاميرات مراقبة في المسجد الأقصى، يستطيع قطع بثها متى شاء.
ونتنياهو يخشى أن تتطور هذه الأحداث فتستغلها أمريكا لإسقاط حكومته، وهو لا ينسى أن الديمقراطيين كانوا قد تمكنوا من إسقاطه خلال رئاسته الأولى، عندما لم يرضخ للسير ضمن مسار الحل الأمريكي (خلال إدارة كلينتون)، وسقط في الانتخابات المبكرة عام 1999.
ونتنياهو يدرك أن الأحداث يمكن أن تُستغل من قبل الأطراف العربية والسلطة الفلسطينية المحركة أمريكياً لبعث مشروع تدويل القدس واستجلاب قوات دولية، خصوصا مع توالي التصريحات السياسية حولها في مصر والجامعة العربية وتونس، مما يعني لكيان اليهود إنقاص سيادته، مما هي ليست محل تفاوض.
لكن نتنياهو المتعجرف لن يتغير في يوم وليلة، ولن يتحول عن التصعيد الدبلوماسي مع أمريكا تحت درجة الحرارة الحالية، ولذلك قال كيري بعد الاجتماع إنه متفائل بحذر، لأنه يدرك عنجهية نتنياهو، ومستوى تجاوبه المحدود لإطفاء الحريق.
ثم اجتمع كيري برئيس السلطة الفلسطينية والملك الأردني، وظل العنوان الأبرز لتحركات كيري هو إبقاء وضع المسجد الأقصى على ما هو عليه، لأن الأردن لم يقبل بالتخلي عن "الوصاية الهاشمية" على المسجد الأقصى، وهو موقف يناقض مشروع تدويل القدس، ولذلك ارتفعت وتيرة التصريحات الأردنية، ووصف الإعلام الأردني الممارسات اليهودية بأنها جرائم حرب، وزادت سخونة الأجواء الشعبية في الأردن.
أما من جهة السلطة الفلسطينية فهي دائما تحت إعراب "المفعول به"، ولا يخرج صوت الساسة فيها عن دور الببغاء الذي يكرر طرح الرؤى الاستعمارية، وهي تدرك أن تحركات كيري فارغة من المضمون، كما صرح بعض ساستها قبيل لقاء كيري، بأنه "لا يحمل شيئاً جديداً". وهم يدركون أن كبسة تشغيل السلطة بيد الإدارة الأمريكية، والتي لوح فيها بعض الساسة بعدم ضمان المساعدات الأمريكية للسلطة الفلسطينية في ظل عدم توفر "الأمن".
وإن ما رشح من لقاء كيري مع ساسة السلطة الفلسطينية في عمان، هو مطالب عباس بتوفير الحماية الدولية، ودعوات للتحقيق في الأحداث من أجل الملاحقة القانونية، وهو لم يخرج عن نهج السلطة في الركض على سكة المؤامرات الاستعمارية، وتفريغ الهبة الشعبية من أي مضمون يمكن أن يشعل في الأمة الجهاد وتحريك الجيوش.
وإن أخطر ما يكيده عباس لفلسطين وأهلها هو إصراره على بعث مشروع تدويل القدس، وهو أمريكي المنشأ، برز منتصف الخمسينات من القرن الماضي، وظهر بداية في قرار تقسيم فلسطين رقم 181 في 29/11/1948، وكانت أمريكا قد بلورت رؤيتها السياسية أواخر حكم الرئيس الأمريكي أيزنهاور خلال عامي 1959-1960، لحل الدولتين مع تدويل القدس. ولا يتسع المقال هنا لتفصيل خلفية هذا المشروع، ولعله يكون في مقال لاحق.
إن خلاصة الموقف أن أمريكا في تحركاتها الدبلوماسية تحاول تسكين الأوجاع عبر نهج إدارة الأزمة، وهي تسير على فلسفة غلي الحجارة في القدر، إلهاءً للجائعين بعملية طهي فارغة، من أجل تدويخهم حتى يستقر بهم الأمر إلى سبات بلا غذاء. وإن أعلى ما طالب به عباس هو اجترار لتاريخ المندوبين الأمريكيين، وإعادة استنساخ تقاريرهم عديمة الجدوى، من مثل بعثة مدير المخابرات الأمريكية الأسبق تنت تحت عنوان "هيئة تحقيق للبحث في أسباب اندلاع العنف في فلسطين"، نهاية التسعينات، ثم تقرير ميتشل عام 2001، والذي ترأس "لجنة تقصي الحقائق في الأراضي الفلسطينية المحتلة".
إن أشبال هذه الهبة الشعبية إن نظروا لطنجرة كيري والتفتوا لنفخ عباس تحت نارها، فقد حكموا على هبتهم بالعودة إلى السبات بعد الإنهاك من طول انتظار الطهي، أما إن أدركوا أن المطابخ الأمريكية لا يمكن أن تنضج الحلول، بل هي تحتاج إلى حرارة الأمة، ووهج سلاحها ودبيب جيوشها، عندها لا يمكن لأحد أن يجيّر هبتهم لتمرير مشاريع أمريكا القديمة المتجددة. وعندها يمكن أن تلتحم هبة فلسطين مع ثورة الأمة، لتكون ثورة حتى الخلافة الراشدة على منهاج النبوة، تحرر فلسطين بقوة سلاح المسلمين.
رأيك في الموضوع