في عام 2001 في أعقاب هجمات الحادي عشر من أيلول/سبتمبر وأثناء التحقيق مع أحد أبناء فلسطين في مخابرات الاحتلال قال له ضابط المخابرات: أنت تهاجم أمريكا في دروسك في المسجد وتقول إن أمريكا أعلنت حرباً صليبية. فأجابه: لست أنا من قال بأن أمريكا تشن حرباً صليبية وإنما الرئيس الأمريكي بنفسه هو من قال ذلك، فقال له الضابط: اسمع، ما يحق للرئيس الأمريكي أن يقوله لا يحق لك أنت أن تقوله!
لقد بات من المؤكد أنه ليس الرئيس الأمريكي وحده يحق له أن يقول ما يشاء وأن يصف الحروب التي تخوضها بلده بالحروب الصليبية وأن يُلبِسها ثوباً دينيا عقائديا يسوِّغ من خلاله القتل والدمار، ولكن هذا ينسحب أيضاً على طفل أمريكا المدلل الجاثم على أرض فلسطين؛ كيان يهود.
فقد "لجأ رئيس الوزراء (الإسرائيلي) بنيامين نتنياهو من جديد إلى التوراة لتبرير وتفسير العدوان الذي تشنه (إسرائيل) على فلسطين ولبنان واليمن، متوعدا بتغيير المعادلات بالمنطقة. وقال نتنياهو في مؤتمر صحفي مع الوزير الجديد في مجلس الوزراء (الإسرائيلي) جدعون ساعر "كما هو مكتوب في التوراة سألاحق أعدائي وسأقضي عليهم". وأضاف "نعمل بمنهجية على اغتيال قيادات حزب الله وتغيير الواقع الاستراتيجي في الشرق الأوسط كله". (الجزيرة، 29/9/2024م)
وحتى تتضح الصورة أكثر فإن هذا الاقتباس كان نتنياهو قد استخدمه سابقا في شهر كانون الأول/ديسمبر 2023 لتعليل الهجوم الهمجي جواً وبراً على قطاع غزة حيث قال إنه "سيحقق نبوءة إشعياء". (الجزيرة، 4/12/2023). وهذه النبوءة ذُكرت في التوراة في سفر إشعياء المعرّف بأنه نبي يهودي لمملكة يهوذا الجنوبية تتحدث عن حلول الظلام على فلسطين وخراب مصر وتبشر بالنور لـ(إسرائيل). (الجزيرة، 24/12/2023م).
وهكذا، وفي الوقت الذي تهاجم فيه المنظومة الدولية بكل أركانها الإسلام والمسلمين وتصفهم بالإرهاب، وتنقسم في هجومها بين من يواري فيقول إن المسلمين (الإرهابيين) يحرّفون النصوص الشرعية لتبرير "الكراهية والأعمال العدائية والإرهابية"، وبين من كان أكثر وضوحاً عندما قال بأن المشكلة تكمن في الإسلام نفسه الذي يحتوي على نصوص عدائية وإرهابية وخطاب مليء بالكراهية. في الوقت ذاته تدعم هذه المنظومة جرائم يهود دعماً مطلقاً، وتستقبل على منبر الأمم المتحدة تبريرهم لحرب الإبادة والقتل والدمار بالاستدلال بنصوص دينية من التوراة بالقبول والرضا، وإعلانهم المتكرر بأنهم يخوضون حرباً دينية بالتأييد والترويج، مع أن هذه الجرائم قد استقبحها جنود الاحتلال أنفسهم بعدما ارتكبوها عندما طالبوا حكومتهم بتوفير العلاج النفسي في أعقاب الاضطرابات التي أصابتهم لهول ما صنعوا، واستقبحتها كافة الشعوب بخلاف مواقف حكوماتها وبالذات في أمريكا وأوروبا وخرجت في الشوارع والجامعات بالآلاف منددة بها مطالبة بوقفها.
إذن، فالغرب بمنظومته الدولية سخّر كل إمكانياته السياسية والعسكرية والمالية والإعلامية لمحاربة ما سماه "التطرف الديني" فقط عندما يتعلق الأمر بالإسلام والمسلمين، ولو أن مسؤولاً أو قائداً أو ناطقاً أو إعلامياً أو داعيةً مسلماً استدل بآية من القرآن الكريم أو بحديث نبوي شريف على وجوب تطبيق الشريعة ونبذ العلمانية والديمقراطية والشرعة الدولية، أو على وجوب توحيد الأمة في دولة الخلافة، أو على وجوب الجهاد في سبيل الله لصد عدوان الغرب أو نشر الإسلام، أو حتى سمّى من يقاتل ضد يهود وضد عدوان الغرب بالمجاهدين، أو من يُقتل منهم بالشهداء، أو وصف إجرام الغرب ويهود بأنه حرب دينية، لقامت الدنيا ولم تقعد، ولنُصبت المحاكم وصدرت الأحكام بتجريمه وملاحقته. بل إن المسلمين اليوم لا يستطيعون أن يستخدموا كلمات من كتاب الله سبحانه ومن سنة نبيه ﷺ كالجهاد والشهيد واليهود في الهاتف أو حتى في وسائل التواصل دون ترميزها وإلا فالملاحقة والمحاكمة مصيرهم!
وبالمقابل فإنك ترى الأنظمة القائمة في بلاد المسلمين بكل مكوناتها السياسية والدبلوماسية والإعلامية وعلى رأسها الحكام أنفسهم يصرون في كل منتدى وعلى كل منبر أن ينكروا أن يكون الصراع دينيا عقائديا، ويتعمدون عدم الاستشهاد بأية آية من كتاب الله تعالى أو من سنة نبيه ﷺ على ذلك، بل وتجاوزوا ذلك إلى إطاعة الغرب عندما أمرهم بحذف النصوص الشرعية من الكتاب والسنة التي تتناول مواضيع مثل الصراع مع العقائد الباطلة، وتحديد الإسلام بأنه وحده دين الحق واجب الاتباع، وأن الاحتكام يجب أن يكون إليه وحده، وأن الجهاد في سبيل الله هو ذروة سنامه وطريقته في نشر دعوته لكسر الحواجز التي تعترضه، حذفوها ليس فقط من خطابهم الرسمي بل من المناهج الدراسية في كل المستويات بغرض إنشاء أجيال مبنية على فكر الغرب بعلمانيته ورأسماليته، واكتفوا طاعةً لأسيادهم بالاستدلال بنصوصٍ وضعوها في غير موضعها للترويج للاحتكام للعلمانية والتعايش وقبول الآخر والمسالمة إلى حد الاستسلام.
وساء الأمر أكثر وأكثر عندما انخرطت الهيئات والمؤسسات الإسلامية العالمية كالأزهر الشريف والاتحاد العالمي لعلماء المسلمين ورابطة علماء المسلمين وغيرها، وكذلك كثير من العلماء - إلا من رحم ربي - بقصد وبغير قصد، انخرطت في نسق الخطاب الذي تستخدمه الأنظمة والحكام، حتى أصبح خطابهم لا يكفي فيه بيان الأدلة الشرعية ودلالاتها وانطباقها على وقائع الأحداث وبيان معالجاتها الشرعية، بل انجروا إلى محاولة جعلها مبرَّرةً ومتساوقةً مع مجموعة القيم والمفاهيم والمعالجات التي سوّقها الغرب كالقانون الدولي والشرعية الدولية ومنظومة اللوائح التي تشكل ما يُسمى بحقوق الإنسان، في حين كان يجدر بهم كهيئات وعلماء أن يبيّنوا الحق ويصدعوا به وينحازوا إليه، وأن لا يجدوا حرجاً في بيان حقيقة الإسلام بأنه دين شامل بعقيدته ونظامه وصالح لكل البشر في كل زمان ومكان، وأنه ليس ديناً فردياً ولا شعائرياً، بل دينٌ الدولة فيه طريقة تطبيقه الثابتة، والجهاد في سبيل الله طريقة الدولة لنشره، ليَعُمَّ نوره ورحمته العالمَ كله.
وقد صدق شوقي رحمه الله عندما وصف حال المسلمين مع أعدائهم فيما يسمحونه لأنفسهم ويمنعونه عن المسلمين فقال: حرامُ على بلابلِهِ الدَّوْحُ *** حلالٌ للطيرِ من كلِّ جنسِ!
بقلم: الأستاذ عامر علي أبو الريش – الأرض المباركة (فلسطين)
رأيك في الموضوع