إنّ المّدقّق في قرارات القيادة الإيرانية وتصرفاتها تجاه الحرب في غزة، يجد أنّها لا تهدف إلا إلى تكريس زعامتها للمنطقة بالتوافق مع المصالح الأمريكية، فهي لا يهمها إلا مصالحها التي لا تُعارض السياسة الأمريكية، وإنّ من أهم هذه المصالح الإيرانية بقاءها على رأس ما يُسمّى بمحور المٌقاومة، ومد نفوذها في الشرق الأوسط ليشمل فلسطين عن طريق بوابة غزة، تماماً كما مدّت نفوذها من قبل في العراق وسوريا ولبنان واليمن، مُستفيدة من الثورات والحروب الأهلية والصراعات المذهبية المُندلعة في المنطقة، وتفعل ذلك لتُصبح قوة إقليمية رئيسية تُنافس كيان يهود، وتتفوق على القوى الإقليمية والمحلية في المنطقة كتركيا ومصر والسعودية.
لقد أدرك كيان يهود في وقت مُبكر تمدّد إيران في المنطقة، فحاول إعاقة هذا التمدد بشيطنة النظام الإيراني، واتهامه بدعم (الإرهاب)، فحاول ضرب إيران منذ أيام أوباما، كما حاول عرقلة الاتفاق النووي بين إيران والدول الخمس الكبرى، لكنّ أمريكا منعت الكيان من ضرب إيران مباشرة، فأصبح الكيان يضرب المصالح الإيرانية في سوريا، ويستفزها للدخول معه في حرب، لكنّ إيران التزمت بما أسمته نظرية (الصبر الاستراتيجي!)، وابتلعت كل الإهانات التي وجّهتها لها دولة يهود، كل ذلك من أجل البقاء كدولة مُنافسة، وتفادت الاصطدام مع الكيان حتى لا تخسر نفوذها بخسارتها للمواجهة مع كيان يهود المتفوق عليها عسكرياً.
فمثلاً من المُفترض أن ترد إيران على الاغتيالات التي ارتكبها كيان يهود على أراضيها فوراً، لا أن تنتظر وتُساوم على وقف إطلاق النار في غزة! فلا توجد علاقة بين حقها في الرد على انتهاك سيادتها وبين وقف إطلاق النار في غزة، ولا علاقة بين إبرام الصفقة في غزة وبين الرد على اغتيال هنية وشكر، فهما موضوعان منفصلان، والمساومة والمفاوضة عليهما بوصفهما مُرتبطين ومُتداخلين الغرض منها استخدام أمريكا لإيران في الضغط على كيان يهود لحمله على قبول الصفقة، وأيضاً جعل إيران وكأنّها هي المسؤولة عن المقاومة في غزة ليكون لها دالة عليها، وليصبح لها تأثير كبير على الفصائل الفلسطينية التي خرج بعضها عن السيطرة، والتي لم يعد للدول العربية تأثير عليها، فكأنّ أمريكا تُريد موازنة كيان يهود بإيران لمنع تفلته، وعدم خروجه من بيت الطاعة الأمريكي.
أمّا كلام حزب إيران في لبنان عن فكرة انفصال مفاوضات غزة عن اغتيال شكر فهو من قبيل التهديد والوعيد الكلامي ليس أكثر، فالحزب يمتثل دوماً بالأوامر الإيرانية.
وأمّا ما تقوم به أمريكا والدول الغربية من الضغط على إيران لمنعها من الرد على صفعات كيان يهود المُتكرّرة فلأنّها تخشى من قيام كيان يهود بقصف المفاعلات النووية الإيرانية، وتخشى بالتالي من اندلاع حرب إقليمية قد تخرج عن زمام السيطرة.
فالمسألة إذاً ليست هي مأساة غزة، ولا المجازر اليومية التي ترتكب فيها، ولا الدماء والأشلاء التي تتطاير في أجوائها ليل نهار، بقدر ما هي مسألة جعل إيران هي المسؤولة عن الفصائل في غزة، فإيران بالنسبة لأمريكا مضمونة وموثوقة، وجُرّبت من قبل في أفغانستان والعراق واليمن، إذ هي دائماً ما كانت تُعين أمريكا، وتتعاون معها في كل حروبها في الشرق الأوسط، ولن تجد أمريكا خيراً منها في الحفاظ على مصالحها.
وإيران وعلى مدى سنين طويلة هي أكثر من تحمّلت الإهانات المُتكررة التي لحقت بها من أفعال كيان يهود العدائية تجاهها، وهي من استطاعت الثبات على الخنوع أمام كل تلك الاعتداءات وتحويلها إلى انتصارات كاذبة، وبينما هي تتراخى أمام عدوان كيان يهود المُتكرّر عليها، تُظهر جبروتها ووحشيتها وإجرامها في قتل السوريين المُعارضين للطاغية بشار، وتُمطرهم مع جيش بشار بالصواريخ الفتّاكة، وتحرقهم بالنابالم، وتُدمّر مُدنهم وتُهدّم منازلهم، وتُجليهم عنها، وتأتي بمستوطنين من شيعتها ليسكنوا تلك البلدات والبيوت التي هجّرتها.
ثمّ إنّ إيران ليست لديها رؤية واضحة تجاه فلسطين، فهي لا تدعو إلى تحريرها، ولا إلى نصرة أهلها، وكل ما تدعو إليه هو ترك الأمور للفلسطينيين لاختيار ما يريدونه من حلول لقضيتهم التي تخصهم ولا تخصها، فإذا اختار خونة فلسطين الالتزام بالقرارات الدولية فإيران ليس لديها مانع في ذلك، فالحكم عندها ليس حكم القرآن والسنة، وإنّما هو حكم الشرعة الدولية التي يتوافق عليها الفلسطينيون، ففلسطين ليست مسألة عقائدية بالنسبة لإيران بل هي مسألة سياسية تخص أهلها ولا تخص كل المسلمين.
إنّها لا تملك نظرة عقائدية عن فلسطين وأنّها أرض الإسراء والمعراج ولا ترى وجوب تحريرها كنظرة معظم المسلمين، لأنّها تعتقد أنّ المسجد الأقصى ليس هو الموجود في مدينة القدس، وإنّما هو موجود في السماء! فالمهم بالنسبة لها ليس النظرة العقائدية بل إنّ جل ما يهمها هو مكانتها وزعامتها ونفوذها وترويج مذهبها في المنطقة.
إنّ ركوب إيران لموجة المقاومة الوهمية أكسبها تعاطفاً شعبياً وفصائلياً كونها، عند مُقارنة موقفها بمواقف حكام العرب الخونة يُدرك المرء الفرق بين مواقفها الداعمة للمقاومة مادياً وإعلامياً وبين مواقف الأنظمة العربية المُتخاذلة، لكنّ هذا الفرق ينعدم عندما يدرك الناس أنّ مواقف إيران مصلحية، ولا غاية لها سوى تزعم الفصائل، ووضعها تحت سيطرتها، ومن ثمّ ضبطها ومنعها من اتخاذ قرارات مُفاجئة تخرج عن الحسابات الأمريكية.
وما يُثبت صحة هذا الكلام هو وجود عشرات المليشيات المسلحة التابعة لإيران والتي تخضع لانضباط إيراني محكم فلا تؤذي أمريكا، ولا تُشكّل أي خطر على الوجود الأمريكي في العراق وسوريا، إذ إنّ هذه المليشيات لا تملك إلا الشعارات، ولا تدخل في معارك حقيقية إلا مع المسلمين في سوريا واليمن والعراق!
فإيران إذاً بتبنيها للمقاومة تريد أن تكون المنافس الإقليمي لكيان يهود في الشرق الأوسط، وتريد أن تستخدم الفصائل الفلسطينية لتحقيق أهدافها التوسعية من جهة، ومن جهة ثانية تريد ضبط عمل هذه الفصائل مستقبلاً وفقاً للأجندة الأمريكية.
رأيك في الموضوع