في الوقت الذي تبذل فيه إدارة بايدن جهودها لمنع التصعيد، وفي احتواء إشعال حربٍ إقليمية في الشرق الأوسط، يعمل نتنياهو بكل إمكانياته من أجل تفجير الأوضاع الأمنية في كل مكانٍ يستطيع التصعيد فيه، مُحاولاً إشراك إدارة بايدن، وتوريطها في حروبه الدامية دفاعاً عن استمرار تفوق كيان يهود على جميع دول المنطقة، لا سيما إيران التي يرى فيها مُنافساً إقليمياً شرساً، بل لا يرى في الشرق الأوسط بأسره مُنافساً غيرها.
فعمليات الاغتيال التي قامت بها دولة يهود مُستهدفةً القائد العسكري العام لحزب الله في بيروت، ورئيس حركة حماس في طهران، واستمرار ارتكابها للمجازر الدموية اليومية في قطاع غزة، كل ذلك يدفع إيران للقيام بالرد على استفزازاتها بعملٍ عسكري يحفظ مكانتها، ويسترد كرامتها التي أهدرت تحت وقع هذه العمليات، بصفتها قائدة ما يُسمّى بمحور المُقاومة. فنتنياهو بهذه العمليات المُتكرّرة إنّما يستهدف رأس المحور مُباشرة وليس أطرافه، وهو يستدرج إيران لحملها على الرد على تلك الاغتيالات والعمليات المُتتالية، ولكي يقوم جيشه - من ثمّ - بالرد على الرد، فينتهز بذلك الفرصة، ويُوجّه ضربات موجعة ضد المصالح الحيوية الإيرانية، كضرب المفاعلات النووية، أو قصف مصانع الصواريخ الباليستية، أو تدمير الطائرات المسيرة في داخل المصانع الإيرانية، وهو ما يضطر إيران ويجرها في الوقت نفسه للقيام بالرد على تلك الضربات للحفاظ على ما يُسمّى بقوة الردع، ولحفظ ماء الوجه، ولإثبات فاعلية محورها أمام الرأي العام، وأمام توابعها، وهو ما يؤدي على الأرجح إلى اندلاع حرب شاملة بين الدولتين، تضطر أمريكا معها للانخراط فيها، وذلك لتعهدها الثابت والدائم بحماية أمن كيان يهود من الضربات والصواريخ الإيرانية، فتوجِد دولة يهود بذلك وقائع جديدة على الأرض، تُشغل أمريكا بها لمدة طويلة، وتلهيها عن الالتفات إلى القضايا الدولية الأخرى المُهمّة، وعلى رأسها مُواجهة خطر التمدد الصيني، والتصدي لمُحاولة الهيمنة الروسية في أوكرانيا وفي غيرها من مناطق النفوذ في أفريقيا.
فنتنياهو إذاً يُشعل الحرائق في كل مكان، بينما إدارة بايدن تعمل كإطفائية لإخماد تلك الحرائق المُتتالية، وبالتالي لا تسمح لإدارة بايدن بالتفرغ لوضع خطة شاملة تُعيد الاستقرار للمنطقة، إذ يُفاجئها نتنياهو في كل مرة بكثرة الوقائع التي يستحدثها، فلا تتمكّن إدارة بايدن من التقاط أنفاسها، ومن ثمّ لا تستطيع ضبطها.
يعتمد نتنياهو في خطته هذه داخلياً على قوة التيار اليميني داخل كيانه الذي يدعم هذا التوجه بقوة، والذي توجد له قاعدة جماهيرية صلبة تُمكّنه من الاستمرار في إطالة أمد الحرب وتوسيعها، ويعتمد خارجياً على قوة الدعم السياسي الأمريكي المُتواطئ معه داخل الكونغرس الأمريكي، وهو ما أفقد إدارة بايدن كل ما تملكه من أوراق الضغط التي يستعملها مع كيان يهود، فأصبح الضغط الأمريكي بسبب ذلك مجرد كلام لا يقترن بالأفعال، فاستغل نتنياهو هذا الضعف الأمريكي، واستمرّ في غطرسته وتمرّده على إدارة بايدن، كما استغلّ فترة الانتخابات الأمريكية التي منحته هامشاً جديداً للمُناورة والمُداورة للتملص من هذا الضغط.
لم تستطع أمريكا أنْ تفعل شيئاً لمنع كيان يهود من الاستمرار في إشعال الحروب سوى استمرار دعم الكيان بالسلاح والعتاد، فأفرجت إدارة بايدن مؤخراً عن مُساعدات مالية للكيان بقيمة ثلاثة مليارات ونصف المليار دولار لشراء أسلحة أمريكية إضافية.
فكأنّ دوام تقديم المُساعدات الأمريكية السخية لكيان يهود باتت هي الوسيلة الوحيدة لدى إدارة بايدن للضغط على الكيان، إذ هي تُغريه بها على أمل أنْ لا يوسّع حربه في المنطقة، ويكتفي بحصرها في غزة.
وبدلاً من الضغط على كيان يهود وكبح لجامه، تقوم إدارة بايدن بالضغط على إيران لمنعها من الرد على ضربات كيان يهود المُتكرّرة، وتُخوّفها إن هي فعلت بخسارتها وهزيمتها، فترسل لها المراسيل والوسطاء لتخذيلها وتجنيبها مغبة الوقوع في مُغامرات نتنياهو المُتهوّرة، ولو على حساب كرامة إيران وهيبتها ومكانتها!
من مصلحة أمريكا بقاء إيران كقوة إقليمية رئيسية في الشرق الأوسط لما قدّمته وتُقدّمه لها خلال ما يربو على أربعين عاماً من خدمات جليلة في الخليج والعراق وسوريا ولبنان واليمن وأفغانستان، لذلك تعمل أمريكا بكل قوتها لتجنيب إيران الانزلاق في معارك خاسرة مع كيان يهود، وذلك في الوقت نفسه الذي تعمل على كبح جماح نتنياهو بكافة السبل، ومُحاولتها إسقاطه، والتخلص منه، ومن ثمّ إعادة الاستقرار للمنطقة تحت سيطرتها، ووفقاً لرؤيتها في حل الدولتين، ودمج كيان يهود في المنطقة دمجاً كلياً تزول بعده - من وجهة نظرها - كل أسباب التوتر والتصعيد، وهو ما يؤدي في النهاية إلى الاستقرار النسبي في الشرق الأوسط.
أمّا بالنسبة للمسلمين فإنّ إفشال خطط نتنياهو في النهاية لا يعتمد على أمريكا ولا على المؤسّسات الأممية ولا على المحاكم الدولية ولا على القوانين الدولية التي ثبت فعلاً وواقعاً أنّها جميعاً مُجرد أكذوبة دولية.
وإنّ إفشال تلك الخطط لا يعتمد أيضاً على الأنظمة العميلة المُتخاذلة القائمة في بلاد المسلمين، بل إنّه يعتمد فقط على صمود أهل غزة ومُقاومتها التي كشفت عن مدى ضعف قوة جيش كيان يهود وهشاشته بالرغم من وحشيته في قتل المدنيين، وأنّه لولا تواطؤ الأنظمة العربية مع كيان يهود، وحمايتها له، وحراستها لحدوده، بتخاذل حكامها وتبعيتهم لأمريكا والغرب، وكذلك تواصل الدعم العسكري الأمريكي الواسع للكيان لما استطاع القتال لأكثر من شهرٍ واحد.
ويبقى أمل الأمّة الإسلامية معقوداً على قيام الخلافة الراشدة على منهاج النبوة التي لا بُدّ من إقامتها على أنقاض تلك الأنظمة المُتهالكة، والتي بمقدورها حسم جميع حروب الأمّة الإسلامية في كل مكان، والتي باستطاعتها نصرة المُستضعفين في فلسطين وكشمير والشيشان وأراكان وتركستان الشرقية وفي غيرها من المناطق التي يُضطهد فيها المسلمون، بل وتستطيع نصرة كل المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، فهي دولة ذات رسالة تحملها إلى جميع ربوع المعمورة، وترفع راية العقاب عالية خفاقة، وتنشر الهدى وتبسط العدل والعدالة في كل مكان.
رأيك في الموضوع