ظهر مُنذ عدة أشهر تعاون عسكري واضح بين السلطات الروسية وبين خليفة حفتر الحاكم العسكري لمنطقة شرق ليبيا، وذلك بهدف إنشاء فيلق عسكري روسي في أفريقيا، وقد قام نائب وزير الدفاع الروسي يونس بك إيفكوروف بزيارة إلى ليبيا بدعوة من حفتر، وتُعد هذه الزيارة - وفقاً لوزارة الدفاع الروسية - هي أولى ثمار المحادثات الروسية الليبية في مؤتمر موسكو الدولي الـ11 للأمن والمنتدى العسكري التقني ومنتدى الجيش في بطرسبورغ في آب من العام الجاري 2023، وتهدف هذه الزيارة لإيفكوروف إلى ترتيب مُهمّة التنفيذ العملي للاتفاقيات الروسية الليبية التي تم التوصل إليها في إطار المؤتمر المذكور.
وذكر بيان روسي عن الكرملين أنّ المعارضين الرئيسيين لروسيا في القارة السوداء هم الولايات المتحدة وحلفاؤها في الناتو بما في ذلك فرنسا، وذكر البيان بالنص: "ستعمل وزارة الدفاع الروسية على مواجهة النفوذ الغربي وتعزيز مكانة موسكو في أفريقيا، وسيتعين على الفيلق الأفريقي الروسي إجراء عمليات عسكرية واسعة النطاق في القارة لدعم البلدان التي تسعى إلى تحرير نفسها أخيراً من التبعية الاستعمارية الجديدة، وتطهير الوجود الغربي وتحقيق السيادة الكاملة".
إنّ سعي روسيا لإنشاء هيئة عسكرية تكون بمثابة قوة ردع لروسيا في أفريقيا، أو لتكوين فيلق عسكري مُتكامل يكون مُخصّصا للقارة الأفريقية، ويكون مُشابهاً للقوة العسكرية الأمريكية أفريكوم، يُعتبر من ناحيةٍ نظرية إنجازاً استراتيجياً كبيراً، وله قيمة كبيرة فيما لو ظهرت له آثار على الأرض، أو لو كان سعياً ذاتياً خاصاً بالدولة الروسية لوحدها، ولكن ما يجعله جهداً عبثياً ضائعاً لا وزن له على أرض الواقع، وما يجعله مُجرد مُحاولة إعلامية روسية فاشلة لا تُشكّل أي خطر على القوى الدولية التي لها تأثير في أفريقيا الأمور التالية:
1- لم تظهر أية أخبار جدية عن هذا الموضوع في وسائل الإعلام المشهورة، فلم يتم تداولها، ولا تسليط الضوء عليها، وهو ما يدل على عدم جدية الإعلان عنها لأنّها لو كانت جدية لما تجاهلتها تلك الوسائل، والغريب أنّه لم يتم الإعلان عن هذه الهيئة بشكلٍ صريح إلا في مناسبة واحدة، وهي زيارة نائب وزير الدفاع الروسي إلى ليبيا بدعوة من خليفة حفتر، وكأنّ خليفة حفتر هو الذي يُشجّع الروس على الإعلان عن هذه الهيئة الوهمية.
2- وإذا علمنا أنّ حفتر هذا هو رجل مخابرات أمريكي منذ خمسين عاما، وعلاقته حالياً وثيقة بعملاء أمريكا وبريطانيا كحكام مصر والسعودية والإمارات، فهذا دليل على أنّ روسيا دولة هزيلة وضعيفة كونها تعتمد في الإعلان عن مشروع يتعلق بأمنها القومي على مثل هذه النوعية من الرجال!
3- لو كانت روسيا جادة في إنشاء مثل هذه الهيئة لأنشأتها منذ بدء توسع نشاطاتها في أفريقيا خاصة في عهد رئيس مجموعة فاغنر الراحل يفغيني بريغوجين الذي أعطى زخماً قوياً للنشاط الروسي في القارة الأفريقية آنذاك، والذي بعد موته ظهر ضعف واضح لروسيا في أفريقيا، وتراجعت نشاطاتها العسكرية كثيراً فيها.
4- إنّ روسيا، مع كل نشاطاتها العسكرية في أفريقيا، لا تملك حتى الآن قاعدة عسكرية ثابتة واحدة فيها، وعجزت حتى الآن عن إقامة قواعد عسكرية صغيرة ولو محدودة، بينما دول كالصين وتركيا والإمارات، وهي دول إقليمية وتابعة، تملك قواعد عسكرية في أفريقيا.
5- إنّ انشغال روسيا في مستنقع حربها في أوكرانيا أضعفها كثيراً واستنزفها وأشغلها عن التوسع خارج مجالها الإقليمي الحيوي فيما لو رغبت في ذلك.
6- ما زال الوضع الاقتصادي الروسي الضعيف أصلاً يزداد ضعفاً وهو ما لا يسمح لروسيا بإقامة هيئة عسكرية قارية مُوازية لأفريكوم الأمريكية.
7- إنّه ومُنذ الإعلان عن رغبتها في التوسع العسكري في أفريقيا الذي ظهر في المؤتمر الروسي الأفريقي في بطرسبورغ قبل ثلاثة أشهر لم يترجم ذلك الإعلان منذ ذلك الوقت بأي عمل مادي على الأرض، ولم تظهر له أية بوادر روسية جدية تدل على البدء في تطبيقه، أو حتى وضع مُخطّطات له.
صحيح أنّ المؤسسة العسكرية الروسية كانت قد قامت بتوطيد علاقاتها مع نظيراتها الأفريقية مُنذ عام 2015 فوقّعت إحدى وعشرين اتفاقية عسكرية مع دول من بينها: أنغولا، وبوتسوانا، وبوركينا فاسو، وتشاد، وإثيوبيا، وغينيا، ومدغشقر، ونيجيريا، والنيجر، وسيراليون، وتنزانيا، وزيمبابوي، وصحيح أنّ الدولة الروسية استخدمت مجموعة فاغنر في تدخلاتها في عشر دول أفريقية وهي: السودان وأفريقيا الوسطى وليبيا وزيمبابوي وأنغولا ومدغشقر وغينيا وغينيا بيساو وموزمبيق والكونغو الديمقراطية، صحيح ذلك كله، ولكن كل هذه العلاقات والنشاطات العسكرية الروسية الكثيرة في أفريقيا لا تزيد عن كونها نشاطات (مليشياوية) أكثر من كونها نشاطات دول كبرى.
وقد لوحظ أنّ أوسع نشاط عسكري لروسيا في أفريقيا ضد القوى المنافِسة الدولية لها كان ضد فرنسا بشكل خاص، وفي دول غرب ووسط أفريقيا بشكل أخص، وهذا يدل على أنّها لا تخدم المصالح الروسية على المدى البعيد، بل تخدم - من ناحية فعلية - المصالح الأمريكية الآنية كونها أسهمت في زعزعة الوجود الفرنسي في أفريقيا، كما حصل من خلال الانقلابات العسكرية ضد فرنسا في مالي وبوركينا فاسو والنيجر، وبالتالي كان ذلك النشاط العسكري الروسي عاملاً من العوامل التي ساهمت في الضغط على فرنسا للقيام بإجلاء قواتها من مستعمراتها السابقة، وهذا بلا شك أفاد الوجود الأمريكي في أفريقيا، الذي أصبح يحل محل الوجود الفرنسي في القارة الأفريقية عموماً.
وكما قلنا أعلاه فإنّه مع كل هذا النشاط الروسي العسكري في أفريقيا فإنّ روسيا لم تتمكّن من بناء قواعد عسكرية أو إيجاد أوضاع عسكرية ذات قيمة في أفريقيا مُقارنة بأمريكا وفرنسا، فأمريكا مثلاً تمتلك 34 قاعدة عسكرية في أفريقيا، وفرنسا تمتلك 16 قاعدة، بينما روسيا لا تملك إلا عناصر فاغنر ومستشارين روساً، وهي تبيع الأسلحة الروسية للدول الأفريقية، لكنّ هذه الأدوات وما يُشابهها لا تنفع ولا تكفي لإيجاد نفوذ دولي استراتيجي.
وأخيراً نقول إنّ أمريكا قد كشفت بصراحة أنّها لا تخشى الوجود العسكري الروسي في أفريقيا كما تخشى الوجود الصيني، ولعل أوضح تعبير في هذا السياق ما ذكره الجنرال ستيفن تاونسند قائد القيادة العسكرية الأمريكية في أفريقيا (أفريكوم) في إفادته أمام لجنة القوات المسلحة في الكونغرس في حديثه عن المنافسة الروسية والصينية لبلاده في أفريقيا حيث قال: "أنا أقل قلقاً بشأن المنافسة الروسية.. أعتقد أنهم [الروس] أقل أهمية بالنسبة لي على المدى الطويل مقارنة بالصين. الصين هي مصدر القلق اليوم وعلى المدى الطويل".
رأيك في الموضوع