أثمرت الصفقة التي رعتها قطر بين إيران وأمريكا عن تبادل السجناء بين الطرفين لكل طرف خمسة سجناء كانوا محتجزين في البلدين منذ سنوات بحجج شتى مثل بيع معلومات سرية أو تجسس، إلا أن أمريكا زادت في ذلك بأنها ستفرج عن أموال جمدتها البنوك في كوريا الجنوبية كانت إيران قد باعت بها نفطها وتقدر هذه الأموال بستة مليارات دولار، ومن المفروض أن تنقل هذه الأموال من كوريا إلى قطر - وهذا هو المهم - بحيث تقوم أمريكا بالإشراف على صرفها بمعنى أنها هي التي ستعطي الإذن للبنوك القطرية إذا أرادت إيران صرفها لشراء سلعة معينة أو بدل استيفاء خدمة، فمثلا لو أن إيران أرادت شراء إسمنت أو حديد، فإن أمريكا ربما ترفض صرف هذا المال لها بحجة أن هذا الإسمنت أو الحديد ربما استخدم لبناء قاعدة عسكرية أو لأغراض غير مدنية، وحتى ما يتعلق بصرف المال في مقابل الغذاء والدواء كما حصل في العراق قبل 30 سنة، فإن أمريكا تستطيع أن تكيف الأمور كما تحب وتشتهي فتعطي أو تمنع.
على كل حال فإن قراءة الصفقة تفتح علينا بعض النقاط التي لا بد من تناولها:
أولاً: إن إيران تدور في فلك أمريكا، وحكامها منذ الخميني - وحتى قبل أن يُسلم الحكم بانقلاب أبيض - هم كذلك، وليس هذا من قبيل التجني أو التحدث بغير علم فإن علاقة كندي بالخميني بدأت منذ أوائل الستينات من القرن المنصرم، بمعنى أن علاقة أمريكا بالخميني كانت قبل أن تسلمه الحكم في إيران بخمس عشرة سنة على الأقل، فقد كان يجري تجهيزه ليحكم إيران ويخلف عميل بريطانيا رضا بهلوي شاه إيران. ومن أراد أن يقف على تفاصيل التسليم وكيف منعت أمريكا الجيش من التدخل بل وجعلته يستقبل الخميني في المطار استقبال الفاتحين فليقرأ كتاب هيكل (مدافع آية الله - قصة إيران والثورة)، ولو ضربنا صفحا عن التاريخ فالشاهد ما زال بين أيدينا؛ فقد سبق لرفسنجاني الذي كان رئيساً لإيران ورئيساً لمصلحة تشخيص النظام أن قال: "لولا إيران لما استطاعت أمريكا أن تدخل في أفغانستان أو العراق"، ولربما لنا أن نزيد على كلامه: "...ولما ثبت عميلها في الشام ولما كان لها موطئ قدم بل أقدام في اليمن". فأمريكا تستخدم حكام إيران منذ ما يزيد على أربعين سنة، ليس أقل من أن تصنع لهم شعبية سواء في البرنامج النووي أو بالإفراج عن الأموال المحتجزة.
ثانيا: ما كان للصين أن ترعى الاتفاق السعودي الإيراني لولا أن أمريكا أذنت بذلك، أي أن أمريكا استخدمت الصين في هذا الأمر كما استخدمت روسيا في الشام وليبيا وقبلها زمن الاتحاد السوفييتي لمساندة عميلها عبد الناصر.
ثالثا: إنَّ إيران منذ زمن الخميني تنفذ ما تطلبه أمريكا منها، ويكفينا إثبات هذا في بلدين؛ ففي العراق لما عزمت أمريكا على كنس نفوذ بريطانيا وعملائها من البعث كانت إيران في الصفوف الأولى لخدمة أمريكا وقبلت بتلزيمها العراق حتى أصبح البلد خاليا من البعث ورجاله، وقامت أمريكا بوضع دستور زمن الحاكم العسكري بريمر وهو دستور طائفي بامتياز يساعد في تمكين إيران من العراق بحيث يكون عملاؤها في الحكم وهذا ما كان، وما زالت أمريكا موجودة في العراق تسيطر عليه بمساعدة إيران. أما المثال الثاني فهو تلزيمها النظام في الشام بعد أن كان على وشك أن يسقط فأتت بإيران ومليشياتها لمساندته.
رابعا: لم يكن لأمريكا أن تطيل أمد الحرب في بلاد المسلمين إلا بالطائفية المقيتة التي تولت إيران كِبرها، فقد عملت في الشام والعراق على وجه الخصوص على جعل النزاع بين أهل البلد نزاعاً طائفيا بحرصها على التسميات التي تنضح بالطائفية لتسمي بها مليشياتها؛ فهؤلاء "زينبيون" و"فاطميون" و"حسينيون" و"علويون"... وكل هذا لتنفيذ مخططات أمريكا في تفتيت الأمة الإسلامية وتفكيك بنيانها.
خامساً: إن دوران إيران في فلك أمريكا يجعلها لا تخرج في سياستها الخارجية عما تريده أمريكا؛ لذلك فإن صفقة تبادل الأسرى بين إيران وأمريكا وجعل الأموال المفرج عنها تحت رحمة أمريكا هي التي تحدد كيف تصرف وفيم تنفق، تعتبر صفعة على وجه إيران، وخدمة مجانية للحزب الديمقراطي في أمريكا، وإن كون إيران تقبل أن تعامَل مثل الولد الصغير الذي يأخذ مصروفه المدرسي من والده فإن هذا وحده كاف للشعور بالمذلة والإهانة ولكن (ومن يهن يسهل الهوان عليه).
سادساً وأخيرا: إن حكام إيران لن يجلبوا للأمة غير المصائب، وهم لو أرادوا الانعتاق من أمريكا لاستطاعوا، فأمريكا ليست عليهم بالقدر المحتوم الذي لا يُبدّل، ولكنهم لم يشعروا بشعور الأحرار يوما ولم يذوقوا طعمها لذلك يَعافون الحرية بل ويحاربونها، فما الذي ينقص إيران حتى يتحرر حكامها؟! فالشعوب المسلمة في كل بلاد الإسلام تتحرّق شوقا لمن يعيدها لليرموك وحطين وعين جالوت، ولا يظنن ظانٌ أن الأمة الإسلامية قد غيرت شيئا من دينها أو بدلت، لكن شرف التغيير لا يسوقه الله لأيٍّ كان، سيما إذا كان خانعاً ذليلا لكن ﴿...فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾.
بقلم: الأستاذ خالد الأشقر (أبو المعتز)
رأيك في الموضوع