تقع محافظة كركوك شمال العراق، وتبلغ مساحتها 9679 كم2، ويبلغ عدد سكانها حوالي مليون وستمائة ألف نسمة، وهم خليط من العرب والكرد والتركمان، وقد مرت هذه المحافظة بمشاكل واضطرابات على مر الحكومات المتعاقبة بعد هدم الخلافة، أبرزها كانت عام 1959م حيث وقعت مجزرة دموية بين الكرد والتركمان، لم تمح آثارها إلى يومنا هذا.
والسبب في عدم استقرار هذه المحافظة هو:
أولا: موقعها الاستراتيجي فهي تصل محافظات الشمال بمحافظات الوسط والجنوب.
ثانيا: أهميتها الاقتصادية فهي محافظة الذهب الأسود والغاز، ففيها أكثر من 240 بئرا نفطيا، إضافة إلى أكبر الآبار العملاقة كمنابع بابا كوركور التي هي من أغزر حقول النفط في العالم، وتبلغ صادرات العراق النفطية 40% من نفط هذه المحافظة.
وقد بدأت الأحداث الأخيرة على إثر قرار رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني في 25/8/2023 تسليم مقر قيادة عمليات كركوك إلى الحزب الديمقراطي الكردستاني، وهذا المقر تم الاستيلاء عليه عندما أعلن مسعود البرزاني عن إجراء استفتاء في 25 أيلول عام 2017م، حول الاستقلال وأنه يشمل المناطق التابعة لكردستان وغير الخاضعة لسلطات الإقليم، في إشارة إلى مدينة كركوك، وكانت حكومة بغداد برئاسة حيدر العبادي آنذاك ترفض هذا الإجراء.
وعلى إثر ذلك تحركت قطعات الجيش العراقي في 16 تشرين الأول عام 2017م نحو كركوك لفرض سيطرة الدولة عليها، ومما سهل مهمة الجيش هو انسحاب الاتحاد الوطني الكردستاني بزعامة بافل الطلباني، وهذا ما اعتبره مسعود البرزاني خيانة بحق الشعب الكردي، ومنذ ذلك التاريخ وليس للحزب الديمقراطي الكردستاني أي نفوذ في مدينة كركوك.
إلى أن جاء قرار رئيس الوزراء الأخير بتسليم المقر وهو من الاتفاقيات غير المعلنة إبان تشكيل الحكومة، وكانت تحتاج إلى بعض الوقت لتهيئة الأجواء، لكن قرب الانتخابات المحلية وطمع مسعود البرزاني في إيجاد ثقل له في انتخابات هذه المحافظة، هو ما عجل بالأمر، وبالتالي كانت التداعيات خلاف رغبته، فقد اعتصمت جماعات من العرب والتركمان أمام المقر معلنين احتجاجهم على تسليم المقر ورفضهم عودة الحزب الديمقراطي إلى كركوك، وقطعت جماعة أخرى الطريق الرئيسي بين أربيل وكركوك.
وفي يوم السبت الموافق 2/9/2023، خرجت مظاهرات مضادة من الأكراد ضد ما فعله العرب والتركمان، وارتفعت الشعارات القومية وبدأ الصدام، وتطورت الأحداث إلى فوضى عارمة استخدم فيها السلاح، وراح ضحيتها أربعة قتلى وأكثر من عشرين جريحاً.
وفي يوم الأحد 3/9/2023 أصدرت المحكمة الاتحادية أمرا ولائيا (مؤقتاً وليس قطعياً) بإيقاف إجراءات تنفيذ إخلاء مقر قيادة عمليات كركوك، وإيقاف قرار السوداني، بعد دعوى رفعها النائب العربي من كركوك وصفي العاصي.
وبالرغم من عودة الأهالي من جميع الأطراف إلى منازلهم وفتح الطريق الرئيسي بين كركوك وأربيل، إلا أنه لا تزال هذه المدينة على صفيح ساخن، ونار تحت الرماد يمكن أن تستعر في أي لحظة.
أيها المسلمون في العراق: إن هذه الأحداث تعكس نقاطاً عدة:
- عندما عجز عدوكم عن هدم الخلافة من الخارج، تغلغل إلى داخل الدولة وأخذ يعزف على وتر القومية، وتشكيل أحزاب على هذا الأساس، إضافة إلى استغلال غير المسلمين من أهل الذمة، وبهذا استطاع أن يمزق اللحمة الوطنية التي قد صُهرت في بوتقة الإسلام.
وحالنا اليوم هو نفسه، فقد باتت دماؤنا قرابين رخيصة لقضية وضيعة، وأصبحت سفينة العراق في بحر لجي تتقاذفه أمواج مصالح السياسيين ومخططات المحتلين الغازين، تحت شعار القومية التي قال عنها رسول الله ﷺ «دَعُوهَا فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ».
- لقد بينت هذه الأحداث مدى ضعف وهشاشة الحكومة العراقية، وأن مصادر القوة متعددة، وهذا واضح من تخبط القرارات، وتوعد الأطراف المتنازعة بالقتل، فمن الجانب الكردي ظهر من يحرض على قتل العرب ومعاملتهم كاليهود، ومن الجانب العربي ظهر من يقول إنهم لا يسلمون كركوك ولو اضطررنا إلى حرقها.
- إن العراق بلد فاقد للسيادة، وهذا واضح من خلال تصريحات إيران وتركيا، فقد أعلن المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية، ناصر كنعاني، استعداد بلاده للتدخل والمساعدة في تحقيق الاستقرار في مدينة كركوك، وكذلك أرسل الرئيس التركي أردوغان إشارات تهديد بالتدخل في حال تم تسليم المحافظة الغنية بالنفط إلى الأكراد، علما أن أجواء العراق تنتهك بشكل شبه يومي وتقصف مدنه بحجة حزب العمال الكردستاني والمعارضة الإيرانية.
- إن هذه الأحداث لا تخلو من أصابع أمريكا، فهي متزامنة مع تحركاتها في المنطقة، ومع نيتها في تحجيم الفصائل المسلحة في العراق، خصوصا في المناطق المناظرة للشريط الحدودي السوري الذي توجد فيه.
- إن هناك حقيقة واقعية ملموسة هي أن جميع الأزمات التي واجهت العراق على مختلف الأصعدة، منذ احتلاله عام 2003م وإلى الآن، كانت أمريكا وأدواتها في العراق المتسبب الأول بها، وأن النظام الذي فرضته ودستورها المشؤوم هو منبع لكل الأزمات.
- دعوى القومية، على مر العصور، هي دعوة فتنة وتمزيق للبلدان، وما كانت دولة الخلافة متماسكة على مدى ثلاثة عشر قرنا، إلا بجعل الإسلام شعار كل مسلم، هذا الشعار الذي جمع أبا بكر العربي بصهيب الرومي وبلال الحبشي وسلمان الفارسي، وعندما ضعفت أفهام المسلمين، تمكن أعداؤهم من زرع بذور القومية النتنة، فكان حصاده هدم دولة الخلافة، وتمزيقها إلى نيف وخمسين دولة، وإعلان مركز الخلافة دولة علمانية قومية.
وفي الختام: فإنه مما تقدم تبرز لنا حقيقة واحدة، وهي أنه لا عز لنا ولا كرامة إلا بالعودة إلى هويتنا الإسلامية ونبذ القومية والطائفية، والاستجابة لأمر الله ورسوله بالعمل الجاد لاستئناف الحياة الإسلامية، وتحكيم شرع الله في ظل دولة الخلافة على منهاج النبوة، عند ذلك تعود لحمة المسلمين على اختلاف أعراقهم، ويكونون يدا واحدة على من سواهم، ويهابهم عدوهم.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُواْ للهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾
بقلم: الأستاذ أحمد الطائي – ولاية العراق
رأيك في الموضوع