هدمت الخلافة رسمياً في شهر رجب عام 1342هـ، ونحن الآن إذ ودعنا رجب هذا العام 1444هــ، فيكون بذلك قد مرّ على هدمها 102 سنة، عانى فيها المسلمون نتيجة غيابها الكثير من الكوارث والهزائم والنكبات، وسادت فيها أحكام الكفر، وحكم فيها العملاء من الجهلة والفجرة والرويبضات.
وبعد انقضاء القرن الماضي الذي داهم الأمّة الإسلامية وكان حالك السواد، عُطّلت فيه أحكام الإسلام، واتّسم بكل ملامح الشقاء والتخلف والتمزّق، فضلاً عن التبعية للكافر المستعمر، فبعد هذا السبات الطويل تُطرح اليوم الأسئلة التالية: هل هناك أمل قريب في الاستيقاظ؟ وهل نشهد بزوغ بصيصٍ من النور لعودة الإسلام ثانيةً إلى الريادة والسيادة؟ وما هي تلك المبشّرات التي يُمكن لمسها من الواقع - إن وُجدت - والتي قد تدل على قرب انبلاج فجرٍ جديد على المسلمين بعد امتداد فحمة الدجى عليهم طوال هذا الليل البهيم؟
إنّ الناظر بعمق في آخر الأحداث الدولية والمستجدّات السياسية يجد أنّ فيها تغيّرات في الوقائع جديرة بالملاحظة والاهتمام، ورُبّما تصلح لأنْ يُستشرف منها وجود إمكانيات حقيقية لتهيئة الأسباب لانتصار الإسلام، ويمكن حصر هذه الوقائع والأحداث في أربعة أمور هي:
أولاً: الصراع الدولي: يلاحظ أنّ الصراع الدولي يزداد تأججاً بين القوى العظمى ويُحدث تصدعات كبيرة بين الدول الكبرى ويستنزف مواردها، ولعل في حرب أوكرانيا مثالاً واضحاً على ذلك الاستنزاف.
ثانياً: حالة الفراغ والتردي: وتظهر هذه الحالة في أمريكا والدول الكبرى بوضوح في مسائل عدم القدرة على اتخاذ القرارات الاستراتيجية؛ ففي أمريكا يظهر الانقسام الحاد بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري، وهو ما أحال الدولة الأمريكية وكأنّها دولتان متخاصمتان، يتناكف فيها الحزبان، ويتنافسان بطريقة خرجت عن كل الأطر المعهودة السابقة، فبلغت حالة من التخبط جعلت بعض العملاء على سبيل المثال ترجع تبعيتهم لأحد الحزبين بدلاً من أن تكون للدولة، كما هو حال حاكم السعودية محمد بن سلمان مثلاً والذي يُوالي الحزب الجمهوري غير الحاكم بدلاً من موالاة الإدارة الأمريكية بقيادة الحزب الديمقراطي الحاكم.
وأدّى ذلك إلى اهتزاز مكانة أمريكا في العالم، وهذا الاهتزاز شمل أيضاً دول الاتحاد الأوروبي وروسيا والصين التي أصبحت في حالة من التخبط من حيث التعامل مع القضايا المُهمة المصيرية، وأصبحت تتعامل مع هذه القضايا بحكم الأمر الواقع وليس بحكم الأمر القابل للتغيير.
وإذا أضفنا الحالة الاقتصادية المتردية لهذه الدول وما يغلب عليها من ارتفاع البطالة وتراجع النمو وزيادة التضخم وارتفاع الأسعار وارتفاع المديونية بشكل كبير، فإنّ ذلك من شأنه أن يجعلها تعيش في حالة من العجز والشلل، لا تقوى معها على مواجهة أزماتها السياسية والاقتصادية المتلاحقة التي لا تتوقف عن التفاقم.
ثالثاً: الشعور العام لدى الشعوب بعدم الاستقرار: ويظهر هذا الشعور بشكلٍ عام بسبب تلاحق الأزمات الاجتماعية العنيفة التي تعصف بالأسرة وتدمرها، نتيجة لنشر المفاهيم الشاذة المخالفة للفطرة، والتي يتم الترويج لها في جميع المجتمعات بشكل غير مسبوق، فتؤدي بالنتيجة إلى فقدان الطمأنينة والاستقرار في المجتمعات بشكل عام، وهذه لا تقل خطورة عن الأزمات الاقتصادية التي تستشري في جميع البلدان بسبب الرأسمالية الفاسدة.
رابعا: تزايد الثقة بقدرة الإسلام على حل مشاكل البشرية: فالثقة لدى المسلمين في قدرة الإسلام على التصدي للمشاكل، وحلها بكفاية وسهولة، والقدرة على قيادة العالم؛ تزداد بشكلٍ مُطّرِد، فيما باتت الدول الكبرى تُدرك حقيقة أنّ الأمّة الإسلامية تسير بخطاً ثابتة نحو الانعتاق من تبعيتها لها.
وها نحن بتنا نرى دولاً صغيرة وضعيفة وفقيرة مثل بوركينا فاسو وساحل العاج ومالي وأفريقيا الوسطى أصبحت تطالب فرنسا بالرحيل عن أراضيها طلباً للتحرر والانعتاق من مستعمرها الجشع الذي جثم على صدرها عقوداً طويلة.
هذا بالنسبة لأهم المبشرات الواقعية، أمّا بالنسبة للمطلوب من المسلمين القيام به من تكاليف فيمكن حصره في أمرين اثنين هما:
أولاً: إبراز المفاهيم العقدية لمُعالجة المخاطر التي تحبط القيام بالأعمال:
وتبرز أهميّة المفاهيم العقدية بالذات في معالجة خطرين اثنين يجب الانتباه لهما وهما:
1- الانشغال بالدنيا والانغماس بهمومها بسبب الظروف الاقتصادية الصعبة التي يعاني منها الناس، وبسبب سيطرة المفاهيم الرأسمالية على سلوك الكثير منهم.
2- الشعور باليأس من القدرة على إحداث التغيير الحقيقي والجذري في حياة الناس.
ثانياً: إبراز قيمة الأعمال المطلوبة لتحقيق النصر:
فيجب إبراز حقيقة أنّ التلبس بالأعمال المفضية للنهوض، والقيام بها على الوجه الصحيح هو الذي من شأنه أنْ يوصل إلى النصر، فلا يجوز القعود عن القيام بالأعمال بتاتاً، لأنّ القعود يعني الاستسلام والعجز، فلا بد إذاً من بذل أقصى الوسع، ولا بد من التحضير بجد واجتهاد، وعرض المفاهيم الجماعية على الناس اللازمة للعمل، ومن ثمّ حملها وإيصالها وتحميلها للناس لإيجاد الرأي العام المنبثق عن الوعي العام في المجتمع، وبناء القاعدة الشعبية الكبرى الحامية للفكرة والمحتضنة لها، وذلك من أجل تحقيق هدف استئناف الحياة الإسلامية بإقامة الخلافة الراشدة الثانية على منهاج النبوة.
وتجب ملاحظة أنّ الأنبياء الذين أيّدهم الله بالمعجزات، حتى هؤلاء طُلِب منهم القيام بالأعمال لتحقيق معجزاتهم، قال تعالى: ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً﴾ وقال سبحانه: ﴿فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ﴾. وهكذا يجب إبراز قيمة الأعمال التي تؤدي إلى النصر.
رأيك في الموضوع