الصور الهابطة في موضوع الصراعات والحروب كثيرةٌ ومتعدّدة ومتجدّدة، وهي نابعة من أفكار المبادئ الأرضية، التي تحكم العالم الآن. فجميعُ المبادئ والأديان التي وضعها البشر، وما بُني عليها من أحكام وتشريعات لتنظيم حياة الإنسان، هي مبادئُ معوجةٌ قاصرةٌ، لا تقنع عقلا ولا توافق فطرة سليمة، وتفتقد إلى الاستقامة أولاً، وإلى الشمولية ثانياً. وهذا واضحٌ وبارزٌ في المبدأ الشيوعي البائد، والمبدأ الرأسمالي المتردّي. وقد يختلط عند بعض النّاس موضوع الابتكارات والاختراعات التي ينجزها أصحاب هذه المبادئ في النواحي العلمية بالناحية الإنسانية، فيرون أن الأمريكي الرأسمالي يخترع ويكتشف أموراً صحيحة ويطّور، ثم يقيس على ذلك موضوع التشريعات والقوانين الإنسانية. والحقيقة أن هذا قياس خاطئ، وأن الفرق كبير بين الأمرين، ولا التقاء بينهما. فالعلوم وقوانينها خلقها الله عزّ وجلّ، وجعلها كامنةً في المادة، ولا يضعها الإنسان، وإنما يكتشفها ويهتدي إليها؛ فقانون الماء مثلا هو ذرتان من الأوكسجين مع ذرة واحدة من الهيدروجين؛ وهذا القانون هو منذ خلق الله السماوات والأرض لم يتغير ولم يتبدل. وكل قوانين المادة هي كذلك، ولو اجتمعت الإنس والجن فإنهم لا يستطيعون تغيير قانون تركيب الماء. أما ما يتعلق بالجانب الإنساني؛ أي القوانين التي تنظم حياة البشر، فإن الله عز وجلّ لم يُودعها في المادة، وإنما استأثر بها عنده وبلّغها للإنسان بواسطة الوحي، ولا يستطيع الإنسان مهما أوتي من عبقرية فكرية أن يهتدي لهذا النظام الصحيح. والدليل على ذلك هو تاريخ الإنسانية السابق وواقعها الحالي، فالإنسانية منذ عهد آدم عليه السلام لم تهتد إلى نظام صحيح إلا ما كان بواسطة الرسالات، أما غير الرسالات فإن البشرية عبدت الكواكب والنجوم، والحجر والشجر... ووضعت قوانين لا تليق بإنسانيتها منها ما يتسبب بقطيعة الأرحام؛ كزواج البنت أو الأخت، ومنها ما يجعل الإنسان تماما كالحيوان في تصرفاته؛ يأكل لحم بعضه ولا يتورع عن القتل وسفك الدماء!
أما ما يتعلق بموضوعنا وهو الصراعات الدولية والحروب في ظل المبادئ الهابطة؛ فإننا سنتحدث عن هذا الموضوع من زوايا عدة:
الزاوية الأولى: أسباب الصراعات الدولية والخصومات الحاصلة اليوم بين الدول ومنها الحروب الطاحنة التي باتت تؤرق العالم أجمع؛ بالدمار والخراب، واحتمالية إعادة فزع الماضي؛ في استعمال القنابل الذرية أو الأسلحة الفتاكة الجماعية، فأسباب هذه الصراعات الحاصلة اليوم، والتي حصلت في الماضي القريب أو البعيد من اتباع المبدئين الاشتراكي والرأسمالي؛ فإن كلا المبدئين يقدس المادة، ويتعامل مع الشعوب من منطلق المنافع المادية حتى داخل البلد الواحد. وقد أطلقت للعقل العنان انطلاقا من الحريات الأربع ليضع القوانين ويغير ويبدل فيها، انطلاقا من المصالح العقلية والمنافع المادية الهابطة.
الزاوية الثانية: ما تهدف إليه الدول الكبرى من إشعال الصراعات الدولية كالحروب والأعمال العدائية، هي المنافع المادية والثروات المرتبطة بالاستعمار. فكل الحروب سواء اشتركت بها بشكل مباشر، كالحربين العالميتين الأولى والثانية، أم الحروب على الدول الضعيفة كالعراق وأفغانستان، أو الحروب التي تديرها من خلف ستار، مثلما حصل بين العراق وإيران، أو بين شطري اليمن، أو السودان وإثيوبيا، أو أرمينيا وأذربيجان، أو الحرب الدائرة الآن في أوكرانيا، أو غيرها من صراعات متجددة ومتعددة أهدافها جميعا استعمارية تهدف إلى السطوة والسيطرة، والمزاحمة فيما بينها على مناطق النفوذ من أجل الثروات والأسواق.
الزاوية الثالثة: ما جلبته الصراعات الدولية وخاصة الحروب على البشرية، منذ بروز هذه المبادئ الهابطة، وكيف يتمثل ذلك عمليا في معاناة الكثير من مناطق العالم. فقد جلبت الصراعات على الشعوب الاستعمار العسكري، وجلبت القتل والخراب والدمار، ومثال ذلك ما خلفته الحربان العالميتان الأولى والثانية من قتلى ومشوهين وغير ذلك، وجلبت التشرد والفقر والتهجير كما هو حاصل في الشام والصومال والسودان واليمن.
الزاوية الرابعة: الحرب الأوكرانية كنموذج كيف ارتبطت هذه الحرب بالمبادئ الهابطة. إن أسباب وأهداف هذه الحرب قد ارتبطت ارتباطا وثيقا بأهداف الدول الرأسمالية ومبدئها خاصة أمريكا. فأمريكا تهدف إلى الحفاظ على تفوقها الدولي وهيمنتها على العالم، وقد نظرت إلى التحالفات القائمة بين روسيا والصين على أنها خطر يهدد هذه الهيمنة، ونظرت كذلك إلى تعاظم قوة الصين الاقتصادية والعسكرية على أنها خطر على نفوذها وهيمنتها، ونظرت إلى محاولات الاتحاد الأوروبي التفلت من تحت جناحها أنه يهدد هيمنتها وتفردها الدولي؛ من أجل هذه الأسباب أشعلت فتيل هذه الحرب الشريرة، وعملت على إيقاد نارها كلما خبت قليلا. وقد جلبت هذه الحرب الدمار الاقتصادي على العالم أجمع، وجلبت التضخم وغلاء الأسعار على دول أوروبا، وجلبت تشرد الملايين من أوكرانيا، وجلبت الخوف والهلع من استعمال الأسلحة المدمرة.
الزاوية الخامسة: ما هو مستقبل هذه الحرب كنموذج للحروب الحاصلة اليوم، هل يمكن أن تتوسع دائرتها لتحقيق أهداف أمريكا تماما كما توسعت حروب عالمية من قبل في أواسط القرن الماضي؛ كالحربين العالميتين الأولى والثانية، والحرب الكورية، وحرب فيتنام؟ الناظر لهذه الحرب يرى أنها لن تقف عند حدود أوكرانيا وروسيا، بل إنها بدأت تتوسع، وبدأت أمريكا توسع دائرة الأحلاف الدولية كحلفي أوكوس وكواد في منطقة المحيط الهادي وبحر الصين. وهي تتحرش بالصين في تايوان من أجل خلق صراع جديد يضاف إلى الصراع الحاصل في أوكرانيا. ولا تبالي أمريكا كم ستجلب من أزمات للعالم، وكم ستجر من ويلات وتهجير وغير ذلك.
الزاوية السادسة: ما هو طريق الخلاص من هذا الدمار والخراب الحاصل اليوم بسبب هذه الصراعات البهيمية؟ الحقيقة هي أن نتائج هذه الحروب مرتبطة بالمبادئ الهابطة، ولا يمكن أن ترتفع شرورها من الأرض إلا بزوالها وزوال الدول التي تتبناها كأسس للتعامل مع غيرها من الشعوب. وطريق خلاص البشرية من شرورها هو بسيادة النظام الإلهي المستقيم الهادي؛ لأنه منهج ربانيٌّ رحيم لا ينظر إلى البشرية نظرة مصالح دنيوية، وإنما نظرة إنقاذ وهداية. فقد حكم هذا المنهج الرباني الأرض نحو 1300 عام، وخاض أصحابه حروبا كثيرة مع القوى المعادية له. فكيف كانت طريقته في نشر فكره؟ وكيف تعامل مع الناس في البلاد المفتوحة؟ وماذا كانت أهدافه؟ وكيف أثر في الناس؟ لقد كانت طريقته ترتبط بمبدئه في فتح البلاد من أجل نشر الرحمة الربانية، ولم يفكر يوما في ثروات الشعوب، ولم يظلمها، ولم يتسبب بالدمار والخراب؛ فأقدم الناس على الدخول فيه أفواجا، بخلاف الاستعمار حيث قابلته الشعوب بالرفض والتصدي، وحاربته لتخرجه من بلادها.
إن هذه الحروب الحاصلة اليوم؛ سواء في أوكرانيا أو غيرها وما يرتبط بها من أسباب وأهداف، إنما تنذر بزوال هذه النظم والمبادئ الهابطة الوضيعة عما قريب ليحل محلها نظام الهداية والرحمة والمرحمة؛ نظام الإسلام في ظل الخلافة على منهاج النبوة؛ لتحمله رسالة خير وهدى إلى البشرية جمعاء، فتنقذها مما هي فيه من ويلات الرأسمالية وشرورها وجشعها.
رأيك في الموضوع