أثار قرار منظمة الدول المصدرة للنفط أوبك بلس الذي جاء في ختام اجتماعهم يوم الأربعاء 5/10/2022 خفض الإنتاج بمقدار مليوني برميل يوميا اعتباراً من بداية تشرين الثاني/نوفمبر القادم، أثار العديد من التصريحات والغضب في أمريكا، والعديد من الدول الأوروبية لما سيؤدي من نتائج في رفع الأسعار واستمرار التضخم خصوصاً مع اقتراب فصل الشتاء وزيادة حاجة الدول المستوردة للطاقة.
وللوقوف على أبعاد هذا القرار وتداعياته وما هو متوقع منه لا بد من ربطه بالأحداث الجارية في روسيا وحربها في أوكرانيا، والغرض الذي من أجله تم جر روسيا لهذا المستنقع، فالتخفيض ثم الانقطاع لإمدادات الغاز الروسية لأوروبا بحجة العقوبات التي فرضت على روسيا، ثم عمليات التفجير المتعمد لخطوط الإمداد الروسية لأوروبا (السيل الشمالي 1 و2) كما أشارت العديد من المصادر، ليأتي هذا القرار متابعا لسلسلة من الإجراءات التي تخدم التطلعات الأمريكية في إبقاء هيمنتها على العالم وبقاء استعمارها للشعوب وتسيير الدول في تحقيق مصالحها على عكس ما أظهره الرئيس الأمريكي وبعض أعضاء الكونجرس من الامتعاض والشجب والتنديد بحجة أن نتائجه تصب في مصلحة روسيا بارتفاع أسعار النفط.
فكما هو معلوم أن منظمة أوبك بلس تشكلت عام 2019 بعد أن قامت أمريكا بدفع السعودية حينها للتقارب مع روسيا وإغرائها بصفقات سلاح لتنضم إلى مجموعة أوبك والمشَكّلة مسبقاً من 13 دولة ليتم التوافق على ميثاق أوبك بلس في فينّا 2/7/2019 بانضمام 10 دول أخرى لتصبح 23 دولة على رأسها السعودية وروسيا، وكان الهدف في ذلك الوقت التحكم في إنتاج النفط وبأسعاره دعماً لمنتجي النفط الأمريكي، وعليه لا يمكن تصور قرار لهذه المنظمة لا يخدم مصلحة أمريكا وتطلعاتها في إبقاء هيمنتها على العالم ومنع انعتاق دول الاتحاد الأوروبي من تحت عباءتها، واستمراراً في تحقيق ما أرادته من جرها روسيا للمستنقع الأوكراني لاستنزافها وإضعافها ومنع تقاربها مع الصين، فبمجرد صدور القرار أصدر الرئيس الأمريكي أمراً باستخدام 10 ملايين برميل من الاحتياطي الاستراتيجي والذي يبلغ 727 مليون برميل تقريباً بالإضافة لكمية مقاربة لذلك كمخزون للشركات الخاصة العاملة بالطاقة في أمريكا، بالإضافة للأحاديث التي بينت إمكانية رفع العقوبات الأمريكية عن فنزويلا والسماح لشركة شيفرون الأمريكية بالعمل هناك في حقول النفط وذلك للسيطرة على ارتفاع الأسعار المتوقع للطاقة في أمريكا، علماً أن مستوى التضخم في أمريكا وصل لما يزيد عن 8% والأسعار مرتفعة، وقد حاولت الحكومة الأمريكية كبح التضخم من خلال رفع أسعار الربا مرات عدة ولم تفلح في ذلك، مؤكداً الأزمة الاقتصادية التي تعاني منها، ليأتي هذا القرار ليُعطي فرصة للرئيس الأمريكي للتهرب من المسؤولية عن هذه الارتفاعات.
أما عن احتمالية تأثير هذا الارتفاع في الأسعار على الناخب الأمريكي خصوصاً أن أمريكا مقبلة على انتخابات الكونجرس النصفية ما يقلل من فرص الحزب الديمقراطي الحاكم الحالي للفوز بها، وذهاب النصيب الأكبر للحزب الجمهوري، فهذا الاحتمال وإن كان ممكناً إلا أن النظر في انتخابات الكونجرس النصفية في أمريكا يجد أن حزب الرئيس الأمريكي الحاكم عادة يخسر هذه الانتخابات لصالح الحزب الآخر دون أن تتأثر سياسة أمريكا العالمية.
لذلك نرى أن ما صدر عن الرئيس الأمريكي أو بعض أعضاء الكونجرس ما هو إلا ذر للرماد في العيون، ويؤكده ما صرح به وزير خارجية أمريكا بالقول "نحن والسعودية لدينا العديد من المصالح المشتركة"، ما يؤكد أن هذا القرار لا يخرج من تحت العباءة الأمريكية.
أما عن القائلين بأن هذا التخفيض والمقدر بمليوني برميل يومياً (علماً أن التخفيض الفعلي المتوقع هو مليون برميل وذلك لأن بعض الدول المنتجة للنفط لا تنتج فعلاً الحصة المخصصة لها لمشاكل تقنية) سيعمل على ارتفاع أسعار النفط والغاز، ما يساعد روسيا على تغطية تكاليف حربها على أوكرانيا، فإن هذا القول لا يصمد أمام حقيقة أن روسيا وبعد العقوبات التي فرضها عليها الغرب اضطرت لبيع نفطها للصين والهند بأسعار متدنية جداً لم يجرؤ حتى الرئيس الروسي بالإفصاح عنها، ما يعني أنه وإن حدث ارتفاع للأسعار فلن تكون روسيا مستفيدة منها.
وبذلك تتضح أبعاد هذا القرار ليأتي مكملاً لما سبقه من أحداث أوصلت دول الاتحاد الأوروبي لأزمات لا تنتهي من ارتفاع نسبة التضخم لما يفوق 10% تقريباً وارتفاع للأسعار وزيادة نسبة البطالة وزيادة الإغلاقات، وارتفاع أثمان الطاقة التي وصلت لخمسة أضعاف ما كانت تحصل عليه من روسيا، والذي دفع وزير الاقتصاد الألماني لاتهام أمريكا بإنهاك الاقتصاد الأوروبي ببيعها الغاز بأثمان مرتفعة جداً دون أن تقيم وزناً لعلاقة الصداقة بينهم، وليدفع بالعملة الأوروبية (اليورو) للانخفاض بشكل دراماتيكي ليصل إلى ما دون الدولار، ويعمل على زيادة الاحتجاجات التي خرجت في أكثر من مدينة أوروبية تطالب برفع العقوبات عن روسيا، ويُنبئ بإعلان إفلاس لبعض الدول الأوروبية وتفكك عقده، محققاً لأمريكا إبقاء هيمنتها على دوله وجرها لخدمتها في إبقاء هيمنتها العالمية واستخدامها في عمليات احتوائها للصين وإبقاء استنزاف روسيا بل ولإعادتها دولة لا وزن لها عالمياً.
لقد استطاعت أمريكا باستخدامها النفط (السلعة الاستراتيجية العالمية) كسلاح فعّال في متابعة تحقيق أهدافها التي سعت لها من جر روسيا للمستنقع الأوكراني والتي منها إنهاء أي تطلع لدول الاتحاد الأوروبي من الانفكاك من تحت عباءتها وإبقاؤها في خدمة تطلعاتها في احتواء الصين وإبقاء هيمنتها دون أن تقيم وزناً لبشر ولا حجر. فما دامت مصالحها تتحقق فليذهب الجميع للجحيم.
هذه هي أمريكا، وهذا هو النظام الرأسمالي لا يهمه إلا مصالح أفراده فقط حتى لو كانت على حساب شعوب العالم المكتوية بارتفاع نسبة الفقر، وزيادة عدد الجوعى، فلتُسفك الدماء، ولتُدمر المدن خدمة لإبقائها متربعة على عرش استعمار الدول والشعوب، يساعدها في ذلك حكام رويبضات نصبتهم لاستنزاف كنوز الشعوب الإسلامية من خيرات وشباب.
نظام لا يهتم بنشر الطمأنينة والعدل بقدر همه نهب البلاد والعباد، على عكس النظام الإسلامي الذي ما وصل أرضاً إلا سادها الاستقرار والاطمئنان والعدل.
لذلك ندعو شعوب العالم عامة والشعوب الإسلامية خاصة للعمل الجاد لإنهاء ظلمة هذا النظام والمطالبة بنظام الإسلام الذي ينشر العدل والطمأنينة أينما حل، وما ذلك على اللّٰه بعزيز.
بقلم: د. عبد الله ناصر – ولاية الأردن
رأيك في الموضوع