في منتصف الأسبوع الماضي وتحديدا يوم الاثنين الموافق 29/8/2022م دخل العراق في فوضى مسلحة راح ضحيتها أكثر من ثلاثين قتيلا ومئات الجرحى، وجاءت هذه الفوضى عقب إعلان المرجع الديني كاظم الحائري اعتزاله العمل المرجعي، متعللا بتداعي صحّته وقواه البدنية بسبب المرض وتقدّم العمر به، وكان واضحا الضغط الإيراني الذي مورس عليه من خلال وصيته الأولى التي أوصى بها بطاعة الولي قائد الثورة الإسلامية علي الخامنئي، وكذلك ما جاء في النقطتين الأخيرتين من وصيته الثانية لأبناء البلد وهما:
أ- على أبناء الشهيدين الصدرين (قدّس الله سرّهما) أن يعرفوا أن حب الشهيدين لا يكفي ما لم يقترن الإيمان بنهجهما بالعمل الصالح والاتباع الحقيقي لأهدافهما التي ضحّيا بنفسيهما من أجلها، ولا يكفي مجرد الادعاء أو الانتساب، ومن يسعى لتفريق أبناء الشعب والمذهب باسم الشهيدين الصدرين، أو يتصدّى للقيادة باسمهما وهو فاقد للاجتهاد أو لباقي الشرائط المشترطة في القيادة الشرعيّة فهو في الحقيقة ليس صدريّاً مهما ادعى أو انتسب.
ب- أُوصي جميع المؤمنين بحشدنا المقدس ولا بد من دعمه وتأييده كقوة مستقلة غير مدمجة في سائر القوى.
وهذا ما اعتبره مقتدى الصدر تسقيطا وخذلانا لشخصه، فما كان منه إلا إعلان اعتزاله العمل السياسي، وقد أعلن ذلك في تغريدة له على توتير، "يظن الكثيرون بما فيهم السيد الحائري (دام ظلّه) أنَّ هذه القيادة جاءت بفضلهم أو بأمرهم، كلا إنَّ ذلك بفضل ربّي أولاً، ومن فيوضات السيد الوالد قدس سره، الذي لم يتخل عن العراق وشعبه"، مضيفاً أنَّ: "النجف الأشرف هي المقر الأكبر للمرجعية كما هو الحال دوماً".
كما أكد أنَّ قرار الحائري لم يكن بمحض إرادته، ليخرج على إثر ذلك آلاف المتظاهرين المؤيدين للصدر في باقي المحافظات الجنوبية، ويتم اقتحام القصر الرئاسي، فتتحرك المليشيات المسلحة المدعومة من إيران لإخراجهم من المنطقة الخضراء بالقوة، وقد قال شهود عيان وهم يهربون من الرصاص، إن معتصمي الإطار أخرجوا السلاح من خيمهم، وفتحوا النار على المتظاهرين، لتنطلق على إثر ذلك سرايا السلام التابعة للصدر، وتصطدم معهم في يوم دموي وفوضى عارمة، وهنا علت أصوات الحكومة وجميع السياسيين مناشدة مقتدى الصدر للتدخل بوقف هذه الفوضى وهذا النزيف.
وفي اليوم التالي خرج الصدر بخطاب وقد بدا عليه الانفعال واضحا، وطلب فيه الانسحاب وبشكل كامل وإنهاء الاعتصام والعودة إلى البيوت، خلال ساعة واحدة، ولم تمر الساعة، ليتغير كل شيء، وإذا بهذه العاصفة العاتية والتي ظن الكثير أنه لا قبل لأحد بالوقوف أمامها، تتلاشى بدقائق، فيتنفس الصعداء جميع الذين كانوا يخشون انهيار العملية السياسية، ويبدون شكرهم لموقف الصدر، وشجاعته في إنقاذ البلد، فهل كان الصدر يريد تغيير الخارطة السياسية؟! وهل مشكلته مع النظام، أم مع الأشخاص؟ وأيا كانت مشكلته، هل لديه القدرة على ذلك؟!
والجواب على ذلك:
أولا: إن الصدر هو جزء من العملية السياسية منذ احتلال العراق وإلى الآن، لديه نواب، ووزراء، ومدراء، فلا يعقل أن من لديه هذه المصالح وهذه المكاسب، يريد تغيير الخارطة السياسية الحالية والتي اكتسب من خلالها هذه المصالح.
ثانيا: إن مشكلة الصدر هي مع الأشخاص وليس مع النظام، فمشكلته شخصية وليست مبدئية، ولا حتى سياسية، وقد أعلن ذلك في خطاب قبل شهر "إن أغلب الشعب سئم الطبقة الحاكمة برمتها ولذلك استغلوا وجودي لإنهاء الفساد ولن يكون للوجوه القديمة وجود بعد الآن من خلال عملية ديمقراطية ثورية سلمية أولا، ثم عملية ديمقراطية انتخابية مبكرة".
ثالثا: أراد الصدر من خلال صنع الفوضى وإيقافها، إرسال رسالة، وهي أن لديه القدرة على تحريك الشارع وإحداث الفوضى، وأن تخلي مرجعيته كاظم الحائري عنه لن يؤثر عليه، وأن هذه الحشود ولاؤها له وليس للحائري، وإطلاقها وإحجامها بيده.
وقد فهم الجميع هذه الرسالة، وإنه وإن كان الصدر يعلم، أنه ليس من المؤكد حسم الصراع لصالحه، ولكن في مثل هكذا صراع كلنا خاسرون.
لذلك يحاول الجميع إرضاء الصدر، وأنه لا يمكن استمرار العملية السياسية بدونه، وقد جرب الإطار من خلال تصريحه بتشكيل الحكومة، ردة فعل التيار، وكيف كانت اللهجة شديدة، ليأتي الرد على لسان صالح محمد العراقي المعروف بـ"وزير الصدر"، في بيان "لم أستغرب ولا طرفة عين من مواقف الإطار التنسيقي الوقحة ولا من مليشياته الوقحة حينما يعلنون وبكل وقاحة متحدين الشعب برمته وبمرجعيته وطوائفه بأنهم ماضون بعقد البرلمان لتشكيل حكومتهم الوقحة".
كما حذر رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي أنه "إذا أرادوا (الفرقاء) الاستـمرار في إثارة الفوضى، والصـراع، والخلاف، والتناحر، وعدم الاستماع لصوت العقل، سأقوم بخطوتي الأخلاقية والوطنية بإعلان خلو المنصب في الوقت المناسب وتحميلهم المسؤولية أمام العراقيين، وأمام التاريخ".
أيها المسلمون: إنه لمن المؤسف والمحزن وأنت ترى حثالة الناس، وهم لا يملكون فكرا ولا خطابا ولا أخلاقا، متنعمين بالسحت من ثروات هذا البلد، تحرك مئات الألوف، وهم في غالبيتهم جوعى يعيشون شظف العيش، وكأنهم غنم تساق لا تدرك أهي ذاهبة إلى الريع، أم المذبح؟! فالتيار يتوعد بمليونية، والإطار يتوعد بمليونية، وهم أتفه ما يكونون، والملايين من أبناء الشعب يدفعون الثمن، وصدق فينا قول رسول الله ﷺ: «سَيَأْتِي عَلَى النَّاسِ سَنَوَاتٌ خَدَّاعَاتٌ، يُصَدَّقُ فِيهَا الْكَاذِبُ وَيُكَذَّبُ فِيهَا الصَّادِقُ، وَيُؤْتَمَنُ فِيهَا الْخَائِنُ وَيُخَوَّنُ فِيهَا الْأَمِينُ، وَيَنْطِقُ فِيهَا الرُّوَيْبِضَةُ» قِيلَ: وَمَا الرُّوَيْبِضَةُ؟ قَالَ: «الرَّجُلُ التَّافِهُ فِي أَمْرِ الْعَامَّةِ».
فهل يليق بأمة أعزها الله بالإسلام، وقوّاها بالإيمان، أن تعيش الذل، وتخنع للظالمين، ولا تأخذ على أيديهم، وقد وعدها سبحانه وتعالى إحدى الحسنيين، النصر أو الشهادة؟!
أما آن لأمة الإسلام أن تعود لنبعها الصافي وتنتهل منه، وتحكم شرع الله سبحانه وتعالى في حياتها، فتنال سعادة الدنيا والآخرة، وتغدو خير أمة كما أرادها الله أن تكون؟! قال تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً﴾.
بقلم: الأستاذ مازن الدباغ
رأيك في الموضوع