أصدر الرئيس التونسي قيس سعيّد مرسوما يدعو فيه التونسيين للتصويت في استفتاء على دستور جديد يوم 25 تموز/يوليو، في خطوة تعتبر الثانية ضمن خارطة الطريق التي أطلقها منذ أشهر، بدأت يوم 20 آذار/مارس الماضي بالاستشارة الوطنية الإلكترونية وستنتهي بانتخابات تشريعية يوم 17 كانون الأول/ديسمبر القادم، وتهدف إلى تركيز مشروع اللامركزية أو البناء القاعدي الذي يمر عبر المجالس المحلية لتشكيل السلطة التشريعية والرقابية من المحلي نحو المركزي، وسيكون السؤال الوحيد في الاستفتاء هو "هل توافق على الدستور الجديد؟"، ليؤسس لنظام رئاسي يتمتع فيه الرئيس بصلاحيات واسعة تمكنه من حل البرلمان إذا اقتضى الأمر ذلك.
وقد جاء المرسوم الذي صدر في الجريدة الرسمية الأسبوع الماضي، بعد تعيين أستاذ القانون الصادق بلعيد على رأس لجنة استشارية، تتألف من عمداء القانون والعلوم السياسية، لصياغة دستور جديد على أنقاض دستور 2014، وتأسيس ما عبّر عنه سعيد بالجمهورية الثالثة، متجاهلا دعوات المعارضة للتراجع عن هذه الخطوة المثيرة للجدل، والتي أقصت الأحزاب السياسية عن إعادة هيكلة النظام السياسي، وهو ما دفعها إلى الدعوة لمقاطعة الاستفتاء، والتعهّد بتصعيد الاحتجاجات ضده.
وفيما يبدو ردا على هذا المرسوم رفض الاتحاد العام التونسي للشغل المشاركة في حوار محدود وشكلي اقترحه الرئيس فيما يعيد كتابة الدستور. ويمثل الاتحاد أحد أهم الأدوات التي تستخدمها القوى الدولية في الـتأثير على مجرى الحياة السياسية لما له من تأثير قوي، ولا شك أن تهديده بتنظيم إضراب في الشركات العمومية والوظائف العامة احتجاجا على الوضع الاقتصادي السيئ وتجميد الأجور، ليس في حقيقته سوى ضغط من القوى الدولية بما فيهم فرنسا التي وقفت وراء انقلاب سعيّد يوم 25 تموز/يوليو لثنيه عن السير قدما في مشروعه السياسي والعودة إلى طاولة المفاوضات وعدم إقصاء الأحزاب التي كانت ولا تزال صمام الأمان للمحافظة على مصالح الغرب ومنظومته الحضارية. فالغرب ينوع من الأدوات للإمساك بالبلاد ولا يجعل مصيرها بيد شخص واحد حتى إذا ما أطيح به فقد الغرب سيطرته.
مقاطعة الأحزاب السياسية للاستفتاء ستؤدي حتما إلى فشلها، خاصة وأن الشعب التونسي أعرب في أكثر من مناسبة عن عدم اكتراثه للصراع العبثي الدائر بين الرئيس وخصومه، وقد برز ذلك أثناء الاستشارة الوطنية التي لم تتجاوز نسبة المشاركة فيها 5%، وهو ما كشف عن مقاطعة شعبية غير معلنة وعن رفض صريح لمشروع الرئيس، إذ لا يمكن التسليم بأن مشاركة أقل من نصف مليون عينة كافية لتمرير الاستشارة ومفرزاتها، ورغم ذلك اعتبر الرئيس أن هذه النسبة كافية لاعتمادها والبناء عليها، كما أن رئيس اللجنة الاستشارية الصادق بلعيد صرّح الأربعاء 25 أيار/مايو أنه سيمضي قدما في كتابة الدستور الجديد "بمن حضر" بعد أن رفض أكاديميون بارزون الانضمام إليها، وهو ما يعبر عن العقلية التي يسير ويفكر بحسبها الرئيس وأعوانه.
إن الصراع بين الرئيس قيس سعيد وخصومه حول طبيعة النظام السياسي في تونس والدستور المنظم له، هو في حقيقته صراع بالوكالة على النفوذ بين القوى الكبرى، وعلى رأسها فرنسا وبريطانيا وأمريكا، ولا علاقة له بتغيير حقيقي منتج، فهذه الدساتير تنبع من مشكاة واحدة وتذكرنا بالدساتير الوضعية التي فرضتها الدول الاستعمارية على الأمة الإسلامية بعد هدم خلافتها وتقسيم وحدتها، فهو صراع شكلي بين نظامين: إما العودة إلى النظام البرلماني ودستور 2014 كما يطالب بذلك أنصار البرلمان، أو العودة إلى نظام ما قبل الثورة أي إلى نظام رئاسي ودستور شبيه بدستور 1959 كما يريد فرض مشروعيته الرئيس قيس سعيد عبر الاستفتاء.
وهو ما يؤكد إلى أي حد وصل تواطؤ الطبقة السياسية في تونس (حكاما ومعارضة) بالتعدي والتحدي لإقصاء الإسلام من منظومة الحكم والتشريع في الدستور وسائر القوانين، وكأن الثورة كانت على الإسلام وأحكامه! في حين يدرك الجميع أن غياب الإسلام عن واقع الحياة هو الكارثة الكبرى التي جلبت الخراب والشرور.
ومن جهة أخرى فإن الدساتير تستوجب بحث الأسباب الموجبة والقاعدة الفكرية التي تقوم عليها فلسفة الدستور والضوابط التي تؤدي لتبني مواده وأخذ آراء علماء الشريعة والخبراء في ذلك بشكل يعبر عن الهوية الإسلامية للشعب التونسي، وليس دستورا يشرف على صياغته الكافر المستعمر مباشرة أو عن طريق ما يسمى بمنظمات المجتمع المدني ذات التمويلات الغربية المشبوهة، أو عبر كل مهزوم ومضبوع بالثقافة الغربية!
إن الدساتير الوضعية التي تتحكم في مصيرنا، فوق كونها تثير غضب الله علينا، فإنها دساتير خالية من أي توضيح لسياسة التعليم وكأنها تركت عمدا لفتح المجال للمؤسسات الدولية أن تعبث بمناهجنا المدرسية، وخالية من توضيح العقيدة العسكرية وكأنهم يريدون أن يبقى الجيش مفصولا عن الجماهير وأوجاعها، دساتير فارغة من تحديد الملكيات بشكل واضح لفتح المجال للنهب والسرقة وتسريب الثروات، دساتير فارغة من تحديد نوعية النظام الاقتصادي للدولة حتى يسمح للبنوك العالمية وصندوق النقد الدولي بالعبث بمعيشة الناس، دساتير تصب في مصلحة النخبة السياسية والحكام فقط، ويضفي شرعية عليها التصرف بطريقة استبدادية تجاه شعوبها.
وحدها الحضارة الإسلامية في ظل نظام الخلافة يمكنها تقديم دستور يحدّ من قيام الحكام بأعمال استبدادية ضد الأمة، وذلك بالاعتماد فقط على القرآن والسنة، حيث حرّم الإسلام على الحكام أن يتصرفوا حسب أهوائهم ورغباتهم ونزواتهم التسلطية.
الشعب التونسي يريد تغييرا حقيقيا نابعا من عقيدته الإسلامية، مأخوذا من كتاب الله وسنة رسوله الكريم ﷺ. يريد دستورا مواده تضبط النظام السياسي المتميز في الإسلام، نظام قائم على أساس الرعاية، وليس على أساس المناورة والخداع للوصول إلى المناصب، فالرّسول ﷺ يقول: «فَالإِمَامُ رَاعٍ وَهُوَ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ...»، يريد دستورا مواده الاقتصادية تبين كيفية رعاية شؤون المال أي السياسة الاقتصادية حيث وضع الإسلام الإصبع على مكمن الداء فى المجتمع فعالجه، يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ﴾، فسن أحكاما تحول دون تركز المال في يد فئة قليلة في المجتمع. الشعب التونسي يريد دستورا يحدد السياسة الخارجية بشكل يجعل السيادة للإسلام، يريد دستورا لا يختص ببلد معين وإنما دستور دولة عظيمة تجمع كل المسلمين، يحمل الخير للبشرية جمعاء.
ولنا في مشروع الدستور الذي قدمه حزب التحرير أسوة، وعلينا جميعا العمل الجاد لوضعه موضع التطبيق والتنفيذ.
بقلم: الدكتور الأسعد العجيلي
رأيك في الموضوع