منذ عقود وأمريكا تستخدم إيران لتنفيذ مخططاتها في المنطقة كما فعلت في العراق والشام، وكانت تستخدمها شرطيا لها في الشرق الأوسط بعامة والخليج العربي خاصة، حيث صورت إيران عن طريق الإعلام أنها الوحش المفترس الذي يتحين الفرصة لينقض على بلاد الخليج فيلتهمها، وغذت صورة البعبع تلك بغذاء طائفي حيث أوحت للمسلمين أن إيران هي دولة الفرس الجديدة التي تريد أن تنشر مذهبها الفارسي في بلاد العرب، وتعيد المجد لإمبراطورية فارس، وأوجدت لدى أبناء المسلمين هاجسا من الخطر الإيراني، فإذا انصرفت أذهانهم تجاه جرائم أمريكا عادوا ليتذكروا الخطر الإيراني، فيقبلوا بحضن أمريكا خوفا من إيران، رغم أن إيران ليست إلا عبدا ذليلا من عبيد أمريكا تأمرها فتطيع، وإذا صرفت أبصارهم تجاه الكيان الصهيوني الغاصب لفلسطين، نكسوا على رؤوسهم ليقولوا الخطر الإيراني أولا ثم يهود! أما حكام هذه البلاد فكانوا بدورهم يلعبون على الوتر نفسه لتركيع شعوبهم، فكلما فكر الشعب برفع رأسه ليقول للظالم كفى ظلما، ذُكّر بالوحش الفارسي الذي سيلتهمه فيتراجع ويرضخ..، وهكذا نجحت أمريكا نجاحا منقطع النظير في تسخير إيران لتركيع هذه البلدان وإذلال أهلها ونهب ثرواتها، عن طريق زرع القواعد العسكرية تارة، وعن طريق بيع الأسلحة تارة أخرى، وعن طريق تنفيذ عملائها لمخططاتها السياسية أطوارا..
لكن أمريكا وبعد أن كانت تستعين بإيران في كل ذلك بشكل شبه سري قررت الآن أن تجعل من إيران ذراعها في المنطقة بشكل علني، ضاربة عرض الحائط بكل الرعب الذي زرعته منها في بلاد الخليج، وأرادت أن تجعل من وجود إيران في المنطقة ومن امتلاكها للقوة النووية وجودا شرعيا مقبولا دوليا، الأمر الذي أشعل غضب دول الخليج، فدول الخليج إما دول تابعة لبريطانيا تعلم أن إيران ذراع أمريكا في المنطقة فتقف بكل قوتها لمنع هذه الذراع من التمدد، أو حتى دول تابعة لأمريكا كالسعودية، بعد أن وصل سلمان إلى الحكم، لكنها لا تستطيع بسهولة أن تقنع أبناءها بطبيعة العلاقة مع إيران بعد عقود من تخويفهم من الخطر الإيراني.. وهكذا وجدت دول الخليج بعمومها نفسها في موقف حرج جدا من السياسة الأمريكية الجديدة تجاه إيران وخاصة بعد فشل عاصفة الحزم في ضعضعة قوة الحوثيين، بل زادت من قوتهم وإيران من خلفهم، فكان لا بد لهم من الاستغاثة بأوروبا لعلها تنجح في إقناع أمريكا لتغيير خطتها الجديدة تجاه إيران، وأوروبا تعلم أن إيران أداة بيد أمريكا وتتقرب لدول الخليج لتقنعهم أنها ستحميهم من الغول الإيراني، ففرنسا كانت على خلاف حاد مع الولايات المتحدة، بشأن برنامج الأبحاث النووي الإيراني خلال مفاوضات لوزانوتطلب الأمر آنذاك تدخلا مباشرا من باراك أوباما الذي هاتف هولاند وضغط بكل ثقله لتليين الموقف الفرنسي وإتمام الاتفاق مع إيران لإعادتها رسميا إلى الحظيرة الدولية.
جاءت سياسة أمريكا الجديدة هذه تجاه إيران والخليج في وقت يستعر فيه أصلا الصراع الأمريكي البريطاني في بلاد الخليج، فبريطانيا خسرت كثيرا من نفوذها في السعودية بموت عبد الله واستلام سلمان، وأمريكا أرادت نزع نفوذ بريطانيا من السعودية بشكل تضمن به عدم عودته، وكل منهما يحاول تكسير عظام الآخر في اليمن عن طريق عملائه فيها وفيما حولها، فكانت السياسة الأمريكية الجديدة تجاه إيران ورقة أخرى أرادت بريطانيا استغلالها في حربها بتهييج عملائها في الخليج على هذه السياسة الأمريكية وتحريضهم على الوقوف في وجهها..
وكعادة الدول الرأسمالية، وكعادة فرنسا تحديدا، لم تستطع فرنسا أن تقف مكتوفة الأيدي من هذا الصراع دون أن تبحث لها عن نصيب من الفريسة (دول الخليج) وعن مصلحة في هذا الصراع، فكان المؤتمر التشاوري في الرياض فرصتها الذهبية لتدخل يدها في هذا الصراع علها تنال نصيبها، فسارع هولاند بنفسه للمشاركة في هذه القمة، رغم أنها قمة خليجية، فكانت المرة الأولى التي يحضر فيها رئيسٌ أجنبي قمةً خليجية، وليصور نفسه بأنه السند الذي يمكن أن يلتجئ إليه أهل الخليج كان لا بد له من أن يضع إصبعه على الجرح بذكر إيران، وأن فرنسا مع دول الخليج في موقفها من تسليح إيران، حيث "أكد التزام بلاده بالوقوف إلى جانب دول مجلس التعاون ودعمها مؤكدا أن الدفاع عن المصالح الخليجية يعني دفاعا عن المصالح الفرنسية"، وقال "علينا التنبه لتصرفات إيران"، و"تجاوزنا تعاون الدفاع إلى تعاونات أخرى، وما مشاركتي في الاجتماع الخليجي إلا علامة على الثقة التي تحظى بها فرنسا"، "وشدد على ضرورة استمرار فرض حظر التسلح على إيران، وعلى عدم امتلاك طهران لأسلحة نووية، لافتا أن رفع العقوبات عنها يجب أن يكون تدريجيا" في محاولة منه لطمأنة دول الخليج أنه معهم مع أنه لا هم له سوى نصيبه من المكاسب، ولعل ذلك يتضح جليا عندما يقول هولاند "اتفقنا مع السعودية على تعزيز علاقاتنا العسكرية" أي أنه سينجح في بيع الرياض شيئا من أسلحة فرنسا المهترئة، وهو تماما ما فعله مع قطر في طريقه إلى الرياض، حيث نجح في إبرام صفقة عسكرية لقطر ببيع ٢٤ طائرة «رافال» الفرنسية وهذا عدا عن كونه يمثل سندا عسكريا للخليج، فهو أيضا نجاحٌ للرأسمالية الفرنسية،فخلال أسابيع عدة تمكنت شركة «داسو» لصناعة الطائرات من إنهاء عشر سنوات من الفشل في تسويق هذه الطائرة، فوقّعت ثلاث صفقات مهمة: 24 طائرة لمصر في شباط (فبراير)، و36 أخرى للهند، و24 طائرة لقطر، أي ما مجموعه 84 طائرة. وقال هولاند إن النجاح ليس للشركة وحدها «بل أيضاً للسلطات الحكومية والدبلوماسية الفرنسية» كما أنها «بشرى سارة» للاقتصاد الفرنسي، فالسياسيون في الدول الرأسمالية هم مجرد مسوّقين للشركات الرأسمالية الضخمة ودورهم الأساس هو رعاية شؤون هذه الشركات، وما بلادنا إلا أسواق يعرضون فيها بضاعتهم ويبيعون فيها منتجاتهم ويتسابقون لنهب أموالها..
فأوروبا ومنها فرنسا قد أدركت خطة أمريكا لإيران وما تحمله هذه الخطة من حساسية لدول الخليج، ورغم أن حكام هذه الدول ليسوا إلا عملاء لا يملكون سوى التنفيذ مهما تذمروا، إلا أن فرنسا وجدت من ذلك فرصة سانحة لقنص بعض المصالح من بين ركام هذا الصراع المشتعل، وهذا الخنوع منقطع النظير من هؤلاء الحكام، فأرادت استغلال الحدث لإشعال بعض الحرائق في طريق أمريكا، ولتحقيق بعض المكاسب الاقتصادية، فكان لها ما أرادت ابتداء في قطر، والدور القادم على السعودية، وهي طبعا لن تكتفي بل ستبقى تبحث عن مصالح أكبر..
إن ما يحدث في بلادنا ليس إلا تجسيداً واقعياً لما أخبرنا به من لا ينطق عن الهوى r «يُوشِكُ الأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيكُمْ كَمَا تَدَاعَى الأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا» رواه أبو داود، حيث أصبحت بلادنا بهوان حكامنا كقصعة الطعام، تتسابق بلاد الكفر صغيرها وكبيرها على نيل نصيبها منها، وإنه لن ينقذنا من هذا الذل إلى ما فيه عزنا في الدنيا والآخرة، إلا دولة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة، والتي يكون إمامُها لنا جنّة نقاتل من ورائه ونتقي به، وعندها نتسابق نحن على نشر نورنا وحضارتنا الربانية في بلاد العالم كافة، بدلا من أن تتسابق هي في نشر نتنها وفسادها في بلادنا، ويقولون متى هو قل عسى أن يكون قريبا..
رأيك في الموضوع