(للمرة الثانية على التوالي وفي أقل من شهرين، أحال وزير الداخلية التونسي عشرات القيادات الأمنية العليا للتقاعد الإجباري، وسط تساؤلات حول دوافع هذا الإجراء، بوقت حذرت فيه قيادات سياسية مما سمته "توظيف الوزارة سياسيا في معركة الرئيس ضد خصومه"... الجزيرة نت).
بين من يراها حملة انتقامية يقوم بها وزير الداخلية توفيق شرف الدين انتصارا لذاته بعد ما شهده من مضايقات وصلت إلى حد الإهانة والإقالة من وزارة الداخلية فترة حكومة هشام المشيشي، وبين من يراها تركيعا لهذا الجهاز التنفيذي خدمة وتوظيفا لمشروع الرئيس ما بعد 25 تموز/يوليو، وجهة أخرى ترى أن هذه الحركة هي في حقيقة الأمر موجهة بالأساس إلى الكوادر الأمنية التي عُرفت بالولاء والانتماء لحركة النهضة وهي من قادت فترة العشر سنوات الماضية...
بين الانتصار للذات والأمن الموازي وعودة دولة البوليس تنفيذا لأوامر الرئيس، تغيب في ثنايا هذه التحاليل والتخمينات السطحية الساذجة، الحقائق البيّنة والأدلة الثابتة والتي يتغافل عنها أغلب الوسط السياسي ويتجنب الحديث في ثناياها ويتجاهل طرحها وكشفها للرأي العام.
لنعد قليلا إلى الوراء ونتذكر تلك الاتفاقية الخيانية التي وقعتها الحكومة التونسية في فترة حكومة يوسف الشاهد والتي سلمت بموجبها وزارة الداخلية إلى مكتب شركة إكس استراتيجي البريطاني لإعادة صياغة عقيدتها الأمنية وإعادة هيكلة دواوينها وضبط استراتيجياتها وأهدافها، هذه الاتفاقيات وإن تسللت من باب التعاون اللوجستي والفني فإنها في الحقيقة تفتح الأبواب على مصاريعها لاستقطاب الكوادر العليا خدمة لمصالحها الاستعمارية ولتوظيف هذه المؤسسة السيادية من أجل حماية نفوذها في البلاد.
من ذلك فإن ما نراه اليوم من صراعات في وزارة الداخلية هو في الحقيقة ينضوي تحت الصراع الدولي ولكن بصورة غير مباشرة للسيطرة على عصب البلاد ووضع اليد على كل صغيرة وكبيرة يمكن معرفتها، وفي هذا الإطار نتذكر ما كشفه الأمين العام لحزب التيار الديمقراطي غازي الشواشي في حوار بث في إذاعة شمس الخاصة، أن القضاء يحقق مع ستة أو سبعة مسؤولين أمنيين بشأن وجود خلية أمنية للتجسس. وأشار إلى أن هذه الخلية تورطت في التجسس على شخصيات هامة في البلاد وصحفيين ورجال أعمال وسياسيين، وهي تعمل في وزارة الداخلية، وأوضح أن "التحقيقات الأولية كشفت أن الخلية تنشط لصالح أطراف داخل البلاد وخارجها".
إن ما يقوم به سعيّد ووزير الداخلية وحكومة بودن بصفة عامة اليوم، هو في الحقيقة عمل لاجتثاث الطبقة السياسية القديمة ذات التوجه والهوى البريطاني، ومحاولة تشكيل وصناعة طبقة سياسية جديدة تدين لفرنسا الصليبية الاستعمارية، وفي هذا الإطار فإن كل الأعمال مباحة من الإحالة على التقاعد الوجوبي إلى الإحالة على القضاء وصولا إلى إصدار قرارات قضائية جاهزة وعلى المقاس. فما بالك إذا ارتبط الأمر بوزارة الداخلية، شريان الحياة، للحكم في مفاصل البلاد والتجسس على كل شاردة وواردة وجمع المعلومات عن كل الخصوم السياسيين، وهذا لا يحتاج إلى الكثير من الاجتهاد، فقط ارجع إلى أغلب كلمات الرئيس وستتيقن أن فلسفة الحكم لديهم تقوم على السيطرة على المعلومة، ثم التهديد والوعيد أو الانبطاح والابتزاز السياسي والمالي والقضائي على غرار ما قامت به حركة النهضة.
أما محاولة جر الرأي العام وتسويق أن ما يقوم به وزير الداخلية من خلال إحالة بعض القيادات الأمنية على التقاعد الوجوبي، أنها بداية التغيير الحقيقية لمرحلة جديدة تقوم على العدل وعدم المحاباة وعلى تحييد إطارات الوزارة من كل ما هو تجاذبات انتماءات وولاءات سياسية، فهذا من باب بث الوهم ومغالطة الرأي العام وتزييف الحقائق.
فلماذا نسمع الرئيس دائما يتحدث عن الولاءات للجهات الأجنبية وعن لقاءات خصومه السياسيين مع الدول الأجنبية في تونس أو في العواصم الغربية، حتى وصل به الأمر إلى القول بمؤامرة داخلية خارجية لاغتياله، ورغم كل هذا فلم نسمعه ولم نره يمنع أو يضع حدا لسفراء ترتع في البلاد دون حسيب أو رقيب بل بالعكس رأيناه يهرول ليلا للمقيم العام الفرنسي بمجرد وجود نفق بمحاذاة إقامته!
لقد آن لكل مخلص من أبناء هذه الأمة أن يدرك أن المشوار الثوري لن يكتمل بتغيير بعض أو جل الوزراء، ولا بتغيير الحكومات، ولا بإحالة القيادات الأمنية السابقة على التقاعد الوجوبي، بل لن يكتمل إلا بعد إسقاط النظام برمته، وبقوانينه العفنة التي لا تقيم عدلاً ولا تنصف مظلوماً ولا تفرج عن مكروب.
إذاً فالتغيير حتى يحدث لا يكفي فيه محاولة تغيير أشخاص كما حصل بعد الثورة، ولا يكون تغييراً إذا زال بن علي من سدة الحكم وبقي النظام كما هو، بل لا بد من تغيير جذري يقوم على تغيير هذه الأنظمة تغييراً جذرياً وشاملاً وذلك على أساس الإسلام بإقامة الخلافة على منهاج النبوة ووضع الدستور الإسلامي للتطبيق مكان هذه الدساتير الفاسدة البائدة.
بقلم: الأستاذ ممدوح بوعزيز
رأيك في الموضوع