غزت أمريكا وحلفاؤها أفغانستان والعراق عقب هجمات 11 أيلول/سبتمبر واحتلت أفغانستان عام 2001 والعراق عام 2003 بحجة الحرب على الإرهاب، ولاقى هذا الاحتلال مقاومة من الشعب الأفغاني بقيادة طالبان ومن الشعب العراقي من فصائل عدة، وقد أوقعت هذه المقاومة خسائر فادحة في القوات الأمريكية.
لكن الصورة تغيرت بين واقع البلدين؛ ففي أفغانستان استمرت المقاومة لعشرين عاما لتصبح الحرب على أفغانستان أطول حرب خاضتها أمريكا، ولم تنجح بكسر إرادة الشعب الأفغاني المجاهد، ما اضطرها للانسحاب؛ فقد جاء على لسان وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن، عن الانسحاب الفوضوي للقوات الأمريكية من أفغانستان، ومكرّرا دفاع بايدن عن الإجراءات المتخذة "إذا لم تكفِ 20 سنة ومئات المليارات من الدولارات من الدعم والمعدات والتدريب، فلماذا ستؤدي سنة أخرى، أو خمس، أو عشر، إلى إحداث فرق؟".
أما في العراق فالصورة مختلفة، فلم تكن للمقاومة قيادة موحدة وكانت مختلفة الاتجاهات؛ فصيل ضم عسكريين من الجيش العراقي بعد حله كجيش محمد، وآخر إسلامي كأنصار الإسلام، وثالث يجمع الاثنين كالنقشبندية، وجماعات أخرى ليس لها أي توجه سوى قتال المحتل بعد أن تمكنت من السلاح الذي تركته الدولة بعد سقوط العراق، ومع ذلك فقد أوجعت هذه المقاومة المحتل الأمريكي، حتى دخلت على خط المقاومة جماعة التوحيد والجهاد بقيادة أبي مصعب الزرقاوي، وبحلول 2006 أعلن الزرقاوي تأسيس "مجلس شورى المجاهدين" بغرض توحيد كافة الفصائل السنية المسلحة في العراق وقد أعلن في حينها حصانة للمحتل بقوله "إن قتال الروافض أولى من قتال المحتل"، مستشهدا بقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ﴾، وبعد مقتله حلّ مكانه أبو عمر البغدادي، الذي أعلن بدوره تغيير اسم "مجلس شورى المجاهدين"، ليكون "دولة العراق الإسلامية"، ووجه دعوة لجميع الفصائل لمبايعة هذا الكيان وحارب الفصائل السنية المقاومة التي لم تبايع ولم توال التنظيم، فتحولت المقاومة إلى فتنة طائفية عمياء ذهب ضحيتها الكثير من الأبرياء، وبات المحتل في مأمن ولم يتعرض لمقاومة بعدها، وأخذ يرسخ نظامه ويحقق أهدافه، ثم تشكلت بعد ذلك فصائل مسلحة؛ أكثر من ستين فصيلا! كلهم موالٍ لإيران بعد سيطرة تنظيم الدولة على الموصل والأنبار وصلاح الدين.
وبعد القضاء على تنظيم الدولة واستعادة المناطق التي كانت خاضعة له تفلّت قسم من هذه الفصائل وبات مصدر إزعاج لأمريكا خاصة بعد مقتل قاسم سليماني (القائد السابق لفيلق القدس الإيراني) ونائب رئيس هيئة الحشد الشعبي العراقي أبو مهدي المهندس، فعلت الأصوات بضرورة خروج القوات الأمريكية من العراق وذهبت إلى أبعد من ذلك بإعطاء مهلة لنهاية العام الجاري، وبخلافه ستدخل حرباً مفتوحة مع المحتل.
وعلى وقع الغضب إزاء انتهاك السيادة العراقية، صوّت البرلمان على طرد القوات الأمريكية من العراق، بيد أن تصويت البرلمان العراقي على الانسحاب لم يكن ملزما، فجاء اتفاق الانسحاب الأمريكي من العراق من الرئيس الأمريكي جو بايدن ورئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي لينهي فصلا من الوجود القتالي للجنود الأمريكيين في العراق، ومع ذلك ورغم الضجة التي صاحبت الإعلان عن الاتفاق، فإن الانسحاب الأمريكي من العراق ليس انسحابا كاملا على غرار انسحابها من أفغانستان.
وهذا يتضح من خلال البيان المشترك للجولة الرابعة من "الحوار الاستراتيجي" بين بغداد وواشنطن أن "العلاقة الأمنية سوف تنتقل بالكامل إلى دور خاص بالتدريب وتقديم المشورة والمساعدة وتبادل المعلومات الاستخباراتية".
وأشار البيان إلى أن القواعد العسكرية التي استخدمتها القوات الأمريكية "هي قواعد عراقية تعمل وفقا للقوانين العراقية"، وأن الجنود الدوليين المتمركزين في هذه القواعد كانوا فقط للمساعدة في الحرب على تنظيم الدولة.
ومما تقدم يتبين أنه ليس هناك انسحاب أمريكي من العراق وأن تغيير دور القوات الأمريكية الموجودة في العراق من الدور القتالي إلى دور التدريب والاستشارة والتمكين، هو أكبر خديعة للشعب العراقي بنهاية الاحتلال الأمريكي، وأنه تمكين للمحتل وليس تحريرا للبلد.
وهنا لا بد من بيان أن استقلال البلدان يكون في التخلص من جميع أشكال الهيمنة الخارجية، ولا يمكن لبلد أن يعتبر نفسه محرَّراً إلا بالتخلص من جميع أشكال الاستعمار والذي هو فرض السيطرة السياسية والثقافية والاقتصادية والعسكرية، وإن أبسط صوره هي الاحتلال العسكري، والأخطر منه هو الاحتلال الفكري والسياسي والاقتصادي، وعندما يقول الباري عز وجل في كتابه العزيز: ﴿وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً﴾، فإنه يعني حرمة أن يكون للكافر أي سبيل على المؤمن من سبل الهيمنة الفكرية والعسكرية والسياسية والاقتصادية...
وتحرير البلد من الاحتلال العسكري لا يتم عن طريق المفاوضات والتلاعب بالألفاظ، بل عن طريق المقاومة المسلحة والجهاد في سبيل الله، والعراق بلد محتل بجميع أنواع الاحتلال، بوجوده على أرضه وفي دستوره ونظامه السياسي والاقتصادي ولا قيمة لخروج الجندي الأمريكي مع بقاء كل ذلك، ومع ذلك لا ترضى أمريكا بخروج جنودها من العراق بل التأكيد على بقائهم من خلال الخداع والتلاعب بالألفاظ بتغيير مهماتهم، وتطبيل الإعلام لذلك على أنه نصر حققه العراق، نصر حققه خدم جاء بهم المحتل نفسه، فهل هناك مهزلة ومشهد مسرحي هزيل أقبح من ذلك؟!
أيها المسلمون في العراق: إنه لمن السذاجة والخيانة أن ينادى بخروج المحتل العسكري مع بقاء نفوذه السياسي والفكري والاقتصادي في البلد، فلا سيادة ولا عزة ولا حياة كريمة إلا بتحرير البلد من كل أنواع الاحتلال، وهذا لا يتم على يد العملاء الخونة والمفاوضات غير المتكافئة وتهديد عصابات مرتبطة، بل لا بد من دولة مبدئية وحكام مخلصين سندهم الأمة، دولة تأخذ أحكامها من كتاب ربها وسنة نبيها في جميع مفاصل حياتها، يقودها إمام راشد جنة يقاتل من ورائه ويتقى به، ونظامها السياسي والفكري والاقتصادي منسجم مع هويتها الإسلامية، وعندها فقط يتحقق النصر وتُحرر البلاد من جميع أشكال الاستعمار.
بقلم: الأستاذ مازن الدباغ – ولاية العراق
رأيك في الموضوع