مع قرب موعد الانتخابات التي يروج لها أن تجرى في ليبيا نهاية هذه السنة، لا زالت الأزمة الليبية تزداد غموضاً وتعقيداً، ولا زال الانقسام والخلاف بين مختلف الأطراف هو سيد الموقف. فكل طرف يتهم الطرف الآخر بأنه سبب ما حل بالبلاد، وأنه المعرقل للانتخابات.
ولقد وصلت الاتهامات إلى مفوضية الانتخابات بأنها منحازة إلى رئيس النواب ومعه حفتر، مع أن المفترض فيها كما يقول متهموها أن تكون محايدة بين كل الأطراف بحكم قانونها وطبيعة عملها، وأن يكون عملها فنياً وليس سياسياً.
إن رئيس النواب بعد أن استعاد دوره بقوة في السيطرة على المجلس وجمعه من جديد ومنحه الثقة للحكومة، أصبح يطمح للتحكم في الحكومة وممارسة ضغوطاته وشروطه عليها. واستطاع بمساوماته وابتزازه للحكومة أن يوقف ويؤخر موافقة النواب على الميزانية العامة للدولة إلى هذا الوقت ولم يبق من السنة المالية إلا أقل من أربعة أشهر، مع اشتداد الأزمات على الناس من غلاء وكهرباء وكورونا وغيرها.
ومن هذه الضغوط التي مارسها رئيس النواب على الحكومة أنه صرح في المدة الأخيرة قائلاً: إذا فشلت الحكومة الوطنية فإنه سيسعى إلى تشكيل حكومة موازية في المنطقة الشرقية، وهذا ما وافق هوى حفتر شريكه في العرقلة والتآمر على وحدة البلاد، الذي قام بعد هذا التصريح باستدعاء عبد الله الثني رئيس الحكومة الموازية السابق، والتقى به مع رئيس النواب في اجتماع علني منقول على وسائل الإعلام، ويبدو أن هذا الأمر قد تم بالتنسيق والاتفاق بينهما، أي بين حفتر وعقيلة صالح.
وحفتر نفسه قد صرح سابقاً بأنه لا يربطه شيء بحكومة الوحدة الوطنية، وقال في أحد خطاباته بأن أصابعهم ما زالت على الزناد، وأنهم مستعدون لخوض حرب أخرى إذا اقتضى الأمر، وما زال أتباعه يشنون حربهم الإعلامية ضد الحكومة والأطراف الأخرى في المناطق الغربية.
وزاد حفتر مرة أخرى من تصعيده ضد الحكومة والمجلس الرئاسي عندما خطب يوم 9/8/2021 بمناسبة تأسيس الجيش الليبي قائلاً: "لا أحد يخدعنا بالدولة المدنية، ولن نخضع لأي سلطة مدنية". فكيف يفهم هذا التنسيق في المواقف بين حفتر ورئيس النواب، وهذه التصريحات المعادية منهما للمجلس الرئاسي والحكومة، بعد أن كانا قد وافقا واعترفا بهما، وبعد نيل الحكومة الثقة من النواب؟
يبدو أن هذه المواقف منهما وهذا التصعيد هو لزيادة الضغط على الحكومة، وللحفاظ على مكانتهما ومصالحهما الشخصية وإثبات وجودهما في المشهد السياسي، وفي أي تسويات قادمة.
وأستبعد أن يكونا جادين في موضوع تشكيل حكومة موازية أو في إمكانية خوض حرب جديدة بعد أن تشكل هذا الواقع الجديد في ليبيا بعد الحرب، وبعد التفاهمات الدولية والإقليمية التي جاءت بالمجلس وحكومته، وفرضتهما على الليبيين، ومجلس النواب، وكل الأطراف والنخب مثلما حصل في السابق في حكومة السراج، وقد تكون هذه الضغوطات التي يقوم بها حفتر في هذا التوقيت الذي كثرت فيه الخلافات وامتدت حتى إلى ملتقى الحوار الليبي الذي أتى بهذه الحكومة، وكثرت فيه الانتقادات والتحذيرات من حفتر ورئيس النواب ومن البعثة الأممية، قد تكون هذه الضغوطات بإيعاز من أمريكا للرد على الانتقادات والتحذيرات ولإخافة النخب والأحزاب والجهات التي تأتي منها هذه الانتقادات خاصة في غرب ليبيا حتى يرضوا ويخضعوا للحلول التي ستفرض عليهم، وقد سبق لسفير أمريكا في ليبيا نورلاند أن خوّف الليبيين من قبل عندما صرح في الأشهر الماضية "بأن ليبيا ستتعرض إلى ضغوطات حقيقية إذا لم تتم عملية الانتخابات".
وربما تكون الضغوطات التي يقوم بها حفتر بإيعاز من أمريكا بعض ما يقصده السفير، وفي الغالب كان يقصد بتصريحاته تلك إخافة بعض الأطراف والكتائب والثوار في المناطق الغربية الذين قد لا يوافقون على الانتخابات في ظل هذه الخلافات والفوضى الأمنية. وهذا السفير نفسه وربما من باب سياسة الترغيب والترهيب والعصا والجزرة ظهر الأيام الماضية يدغدغ مشاعر الليبيين وحاجتهم إلى الأموال فصرح بأن الانتخابات ستؤدي إلى استقرار البلاد، وستتيح لليبيين استعادة عشرات المليارات من الدولارات المجمدة لدى الدول الأخرى. وبالتوازي مع هذه التخويفات من السفير الأمريكي وضغوطات حفتر، تقوم هذه الأيام حكومة الوحدة الوطنية بمشروع إدماج الثوار والقوات المساندة التي شاركت في الحرب، واستيعابهم في الوزارات والمؤسسات وفي الجيش والشرطة. وأصدر الدبيبة تعليماته إلى وزرائه بتنفيذ ذلك، ومن المعروف أن هذا المشروع قد بدأه وزير الداخلية السابق في حكومة السراج الذي كان موكولاً إليه القيام بتفكيك الكتائب والمليشيات واستيعابهم في الجهات المذكورة.
وقد تنجح الحكومة في هذا الأمر، بعد مضي هذا الوقت الطويل من معاناة الليبيين، وتعبهم وتذمرهم من الحروب والصراعات. وهذا هو المطلوب من الحكومة في هذا الوقت بعد أن ظنت القوى الدولية والإقليمية أن الأمور قد نضجت، وأن المحن والمصائب والأزمات الحقيقية منها والمفتعلة، قد جعلت الليبيين أو الغالبية منهم يرضون بسياسات الأمر الواقع، وبأنصاف الحلول وبأرباعها، ولو جاءت من أعدائهم والطامعين في بلادهم.
قد يرى البعض أن هذه المعاداة للحكومة من حفتر ومن غيره تزيد من قبول الناس بها في المناطق الغربية والجنوبية، لأنهم يرون فيها عوناً لهم على حفتر، وحامياً لهم من مجيئه إليهم وتسلطه عليهم، وبذلك تزداد إمكانية الحكومة في تفكيك وحل كتائب الثوار الذين تصدوا لحفتر في حربه على طرابلس.
وربما زاد من أسهم الحكومة في المناطق الغربية هذا التقارب مع تركيا، والزيارات المتبادلة على أعلى المستويات، وتلك التصريحات المطمئنة الصادرة عن المسؤولين الأتراك، التي يؤكدون فيها استمرارهم في دعم الحكومة الليبية، واستمرار خبرائهم ومدربيهم في تدريب الجيش والجهات الأمنية، بناء على الاتفاقية المعقودة بين البلدين. ويزيد من التطمينات التركية لليبيين تلك الأخبار المتداولة عن الاتفاق بين روسيا وتركيا على إخراج المرتزقة والقوات الأجنبية من ليبيا. وفي هذا السياق كانت زيارة الوفد العسكري الذي أرسله حفتر إلى روسيا، والوفد العسكري من المنطقة الغربية. وعلى إثر هاتين الزيارتين تم فتح الطريق الساحلي بين شرق البلاد وغربها. وربما كانت هاتان الزيارتان جزءاً من الاتفاق الروسي التركي على إخراج القوات الأجنبية، وجزءاً من الترتيبات الأمنية في منطقة سرت والجفرة بعد إخراج المرتزقة، وقد يتم هذا قبل موعد الانتخابات، ولا يدرك كثير من الليبيين مع الأسف، هذا الدور الخطير الذي تقوم به روسيا وتركيا في إجهاض ثورات الربيع العربي مثل ما فعلتاه في سوريا، وتفعلانه الآن في ليبيا.
فيا أهلنا في ليبيا جميعاً، ويا من تتصدرون المشهد السياسي في جميع مواقعكم، وبمختلف أسمائكم ومسمياتكم، اتّقوا الله في بلادكم، وحافظوا على هذا الجزء الغالي من بلاد الإسلام الذي هو أمانة في أعناقكم، تسألون عنها يوم القيامة وتلعنكم الأجيال القادمة إن أنتم فرطتم فيها، واعملوا مع حزب التحرير لاستئناف الحياة الإسلامية، بإقامة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة، والتي ستكون ليبيا جزءاً عزيزاً منها، فتعز الإسلام والمسلمين، وتذل الكفرة والمنافقين. وما ذلك على الله بعزيز.
بقلم: الأستاذ محمد صادق
رأيك في الموضوع