بسم الله الرحمن الرحيم
السؤال: كشف وزير الخارجية التركي مولود تشاووش أوغلو في 8/10/2020م عن توصله إلى اتفاق جديد بين بلاده واليونان. وقال الوزير في تصريحات له، وفق موقع تركيا الآن: (إنه اتفق مع نظيره اليوناني نيكوس ديندياس، على إجراء محادثات استكشافية بين البلدين. جاء ذلك في تصريحات عقب لقائه مع ديندياس على هامش مشاركته في منتدى براتيسلافا للأمن العالمي المقام بسلوفاكيا. وأوضح أن تركيا ستستضيف المحادثات، في حين إن اليونان يتقدم بالمقترحات لمواعيدها... موقع تركيا الآن، 08/10/2020م). وكان قد سبق ذلك أن قامت تركيا بتأزيم كبير لعلاقاتها مع اليونان وتحدّتها بإرسال سفن التنقيب التركية مع سفن حربية مرافقة... فما هي حقيقة هذه الأزمة بين تركيا واليونان؟ وما هي حقيقة المواقف الدولية من هذه الأزمة؟ وهل أمريكا وراء ذلك أو تركيا تتصرف بمفردها؟ ثم ما تفسير التوتر الكبير الذي كان في البداية ثم انتهى للقبول بالتفاوض؟ ولكم الشكر.
الجواب: إن النظر إلى الأزمة التركية اليونانية يجب أن يكون من حيث أسبابها وتداعياتها المحلية في تركيا وكذلك أبعادها الاقتصادية والدولية... وللوقوف على ذلك يجب استعراض الأمور التالية ابتداء من اتفاقية لوزان في الربع الأول من القرن الماضي:
أولاً: اتفاقية لوزان:
1- إن تركيا تمتلك أطول شاطئ على بحر إيجة وشرق المتوسط لكن اتفاقية لوزان التي وقعها في 24/7/1923م ممثلو مجرم العصر مصطفى كمال باسم حكومة الجمعية الوطنية الكبرى لتركيا في أنقرة المنشقة عن الخلافة في إسطنبول، هذه الاتفاقية هي التي حصرت تركيا في بحر إيجة فلا تكاد تفارق شواطئها حيث إن الجزر داخل بحر إيجة أصبحت كلها أو جلها لليونان! وكان ذلك عندما أرسل مصطفى كمال ممثليه إلى لوزان في سويسرا عارضاً على الحلفاء أن حكومته في أنقرة المنشقة عن الخلافة في إسطنبول يمكنها أن توقع معهم، أي الحلفاء، الاتفاقية التي يريدون! وهكذا تم توقيع اتفاقية لوزان في سويسرا بين ممثلي بريطانيا وفرنسا ودول أخرى مع ممثلي مصطفى كمال برئاسة عصمت إينونو باسم حكومة الجمعية الوطنية الكبرى في أنقرة...
2- وقد وردت في الاتفاقية أمور مذهلة وافق عليها مصطفى كمال وممثلوه ومنها ما جاء في المادة 12 حيث أصبحت جزر بحر إيجة كلها أو جلها تابعة لليونان مع أن منها ما يبعد عن البر اليوناني نحو 600كم فيما هي تقابل البر التركي على مسافة كيلومترين في بعض الأحيان كما في حالة جزيرة ميس التي تتبع اليونان ويسمونها كاستيلو روز قبالة مدينة كاش بولاية أنطالية، وهذه المعاهدة هي ما تعطي اليونان (الشرعية) بمطالبة تركيا بعدم التنقيب قبالة السواحل التركية لأنها حق خالص لليونان بموجب اتفاقية لوزان! ثم المادة 15 بأن تتنازل تركيا لصالح إيطاليا عن جميع الحقوق والملكية على الجزر التالية: ستامباليا (أستراباليا)، رودس (رودوس)، كالكي (خاركي)... إلخ، وكذلك المادة 20 التي تقر تركيا بموجبها ضم قبرص إلى الحكومة البريطانية الذي أعلنته بريطانيا في تشرين الثاني/نوفمبر 1914م. وأيضاً ما جاء في المادة 23 الذي ينص على أن الأطراف (السامية) المتعاقدة اتفقت على الاعتراف بمبدأ حرية المرور والملاحة وإعلانهما، عن طريق البحر والجو، في وقت السلم كما في زمن الحرب، في مضيق الدردنيل وبحر مرمرة والبوسفور! وهكذا أصبحت تركيا، ذاتُ أطول شاطئ شرق البحر المتوسط، فاقدةً حرية الحركة حول الجزر الموجودة في هذه البحار، وهي التي تذكَّرها أردوغان اليوم باسم (وطنه "الأزرق" المسلوب)! وهو يتظلم منها في الوقت الذي تطل فيه من فوق رأسه صورة مجرم العصر مصطفى كمال الذي أقر هذه التنازلات في لوزان، ومع كل هذا وذاك فلا يجرؤ على ذكر مصطفى بكلمة تؤذيه!! بل يدغدغ مشاعر الشعب التركي بتسمية سفن التنقيب بأسماء قادة العثمانيين العظام محمد الفاتح والقانوني، رغم بُعده في كافة سياساته عن هؤلاء القادة العظام! وهو يعلن (أن الجميع يدرك أن تركيا قادرة سياسيا واقتصاديا وعسكريا على "تمزيق الوثائق والخرائط المجحفة المستندة إلى انعدام الأخلاق والمماحكة ضدها". ويضيف أن بلاده مستعدة لإيضاح ذلك "عبر المرور بتجارب مؤلمة سواء على طاولة المفاوضات أو في الميدان"... الجزيرة، 5/9/2020م) ولكنه يكتفي بذلك ويظن أنه يحسن صنعاً! ولعل الشعب التركي رأى أن اليونان التي لا يكاد يكون لها جيش مؤثر قد أرسلت جنودها إلى جزيرة ميس علماً بأن اتفاقية لوزان تنص على أنها منزوعة السلاح، ومع ذلك فلم يجابه اليونان بالقوة التي يستحق!
3- ومع أن هذه الاتفاقية صفقة خيانية عقدها مصطفى كمال مع الحلفاء إلا أنه عقدها باسم حكومة الجمعية الوطنية الكبرى في أنقرة، فلم تكتف بريطانيا بذلك بل أرادت منه أن يكمل الشروط التي وضعتها له وأبرزها إلغاء الخلافة إلغاء تاماً وإقرار علمانية الدولة، وقد استجاب مصطفى كمال ومن ثم فقد تم ذلك في صبيحة الثالث من آذار سنة 1924م حيث أعلن إلغاء الخلافة، وفصل الدين عن الدولة. وفي الليلة ذاتها أرسل مصطفى كمال أمراً إلى حاكم إسطنبول يقضي بأن يغادر الخليفة عبد المجيد تركيا قبل فجر اليوم التالي، فذهب تصحبه حامية من رجال البوليس والجيش إلى قصر الخليفة في منتصف الليل، وهناك أجبر الخليفة أن يستقل سيارة حملته عبر الحدود في اتجاه سويسرا... وبعد يومين حشد مصطفى كمال جميع أمراء العهد وأميراته ورحلوا إلى خارج البلاد. وألغيت كل الوظائف الدينية، وأصبحت أوقاف المسلمين ملكاً للدولة، كما أن المدارس الدينية تحولت إلى مدنية، وباتت تحت رقابة وزارة المعارف. وبهذا نفذ مصطفى كمال الشروط الأربعة التي طلبها كرزون من مصطفى كمال وهي: إلغاء الخلافة إلغاءً تاماً، وطرد الخليفة خارج الحدود، ومصادرة أمواله، وإعلان علمانية الدولة، ومن ثم فإن اتفاق لوزان الذي كان قبل إلغاء الخلافة قد أكد عليه ونفذ بعد إلغاء الخلافة...! وهكذا تُوّجت اتفاقية لوزان بإلغاء الخلافة، واعترفت الدول باستقلال تركيا، وانسحب الإنجليز من إسطنبول والمضايق. وعلى أثر ذلك قام أحد النواب الإنجليز واحتج على كرزون في مجلس العموم لاعترافه باستقلال تركيا فأجابه كرزون قائلاً: "القضية أن تركيا قد قضي عليها، ولن تقوم لها قائمة، لأننا قد قضينا على القوة المعنوية فيها: الخلافة والإسلام". وهكذا فقد تم للإنجليز القضاء على الخلافة وعلى الإسلام بواسطة مصطفى كمال رغم أنوف المسلمين في جميع أنحاء الأرض بوجه عام، ورغم أنف المسلمين في تركيا بالذات بوجه خاص. وبذلك غاض الحكم بما أنزل الله من جميع بقاع الأرض، وظل الحكم بغير ما أنزل الله، ظل حكم الكفر، ظل حكم الطاغوت وحده هو الذي يتحكم في الناس جميعاً، ويطبق في جميع العالم!
ثانياً: هذه هي الاتفاقية التي وقعها ممثلو مصطفى كمال في مدينة لوزان السويسرية حيث قُيدت تركيا في بحر إيجة وجعلت جزره وشواطئها لليونان ومن ثم تمنع تركيا من التنقيب فيه! وهذا الأمر قد مضى عليه نحو مئة عام وتركيا خاضعة له فما الذي حرك تركيا الآن؟ إن المتدبر لمجريات الأمور يتبين له أن هذه الأزمة وراءها عاملان؛ داخلي بسبب ظروف تركيا الاقتصادية، وخارجي وراءه الولايات المتحدة الأمريكية:
1- العامل الداخلي:
أ- تركيا بلد مستهلك للطاقة وغير منتج لها، وحديثاً وصل إنتاجها من النفط إلى 53 ألف برميل يومياً (وكالة الأناضول 25/7/2020م)، وهو رقم صغير للغاية قياساً باستهلاكها مليون برميل نفط يومياً (العربي الجديد، 22/4/2020م). وتنتج حوالي 475 مليون متر مكعب من الغاز وتستورد أكثر من 45 مليار متر مكعب منه (الجزيرة نت، 31/8/2020م). وهكذا فإن تركيا تقف أمام فاتورة باهظة للنفط والغاز اللذين تستوردهما والتي بلغت 41 مليار دولار سنة 2019 انخفاضاً من 43 ملياراً لسنة 2018 بسبب الانخفاض النسبي لسعر الطاقة عالمياً (صحيفة ديلي صباح التركية، 27/2/2020م). وهذا عامل يرهق الاقتصاد التركي بشكل كبير.
ب- ولأن تركيا تقع بين الدول المنتجة للنفط في المنطقة العربية وإيران وأذربيجان وبين الدول المستهلكة له، أي الدول الأوروبية، فقد بنت الكثير من استراتيجاتها للطاقة على أساس كونها "دولة الممر"، وصار ميناء جيهان التركي ميناء تصدير النفط الأذري وأقيمت فيها وعبرها شبكة من الأنابيب ليس آخرها خط السيل التركي لنقل الغاز الروسي إلى غرب تركيا ومنها إلى أوروبا والذي جرى افتتاحه في 8/1/2020م. وعلى الرغم من الرسوم التي تجنيها تركيا كونها دولة ممر للطاقة إلا أن فاتورة النفط والغاز لا تزال باهظة التكاليف لاقتصادها.
ج- منذ سنة 2009 أخذ كيان يهود وشركات دولية تصدر إعلانات جديدة عن اكتشاف كميات خيالية من الغاز شرقي المتوسط، ففي حقل تامار 80 كلم غربي مدينة حيفا تم اكتشاف 9 تريليون قدم مكعبة من الغاز القابل للاستخراج، ثم بعد شهور عدة اكتشف حقل داليت غربي وسط فلسطين المحتلة بمقدار 500 مليار قدم مكعبة، وفي عام 2010 تم اكتشاف كميات فاقت الخيال في حقل جوناثان غربي فلسطين بمقدار 16 تريليون قدم مكعبة، وقالت صحيفة فورين بوليسي الأمريكية وقتها "وهو أكبر اكشاف للغاز الطبيعي على مستوى العالم منذ عقد من السنين".
د- ولذلك فإن تركيا قد بادرت بحجز وشراء سفينة تنقيب حديثة وكبيرة من كوريا الجنوبية هي سفينة "الفاتح" لتبحر للمرة الأولى سنة 2011 وتبدأ بالتنقيب عن النفط والغاز. ومن بعدها بدأت سلسلة من الأزمات بينها وبين قبرص واليونان على ادعاء أن تركيا تنقب في المناطق البحرية الخالصة لقبرص، وكانت تركيا تتذرع بالقبارصة الأتراك وحقوقهم. لكن في الشهور الأخيرة زادت تركيا من وتيرة أعمال التنقيب بعد شرائها سفينة تنقيب أخرى (حفر بحري) من بريطانيا ليصبح لديها أسطول معقول من سفن الحفر البحري والمسح الجيولوجي وقادر على البحث والتنقيب في آن واحد في البحر الأسود وغربي شواطئ تركيا وجنوب قبرص في شرقي المتوسط.
ه- وهكذا فإن تركيا كانت بحاجة لإصلاح وضعها الاقتصادي عن طريق استكشاف النفط والغاز... ولعل مما يجب ذكره أيضاً أن الاقتصاد التركي يتعرض لضربات كبيرة ظهرت أوجاعها في هبوط مستمر للعملة التركية "الليرة" ما دفع بالرئيس أردوغان لزيادة وتيرة التنقيب عن الغاز على أمل أن يجد بريق أمل لهذا الاقتصاد يستطيع به أن يحافظ على شعبيته المتهاوية على أثر هبوط الليرة وتمرد قيادات من حزبه عليه وتشكيلها لأحزاب معارضة تأكل من شعبية أردوغان، لذلك كانت أعمال التنقيب التركية شاملة للبحر الأسود وليست مقتصرة على المناطق المتنازع عليها مع اليونان في المتوسط.
2- العامل الخارجي:
أ- إن الولايات المتحدة تدعم إطلاق المساعي التركية هذه، وذلك من زاويتين: الأولى محلية ومفادها أن رجلها في تركيا "أردوغان" سيكون في وضع أفضل إن تمكن من إزالة كوابح الاقتصاد وزاد من شعبيته وأعادها إلى مستويات عالية كما كانت عليه قبل 2014، وهذا يسهل عليه تنفيذ السياسات الأمريكية كما في تدخله في ليبيا حيث يمكنه الإنفاق على تدخلاته الإقليمية لصالح أمريكا، وأما الثانية، فإن أمريكا في الوقت الذي لا تريد فيه لأوروبا أن تكون تحت التأثير السياسي للغاز الروسي فإنها لا تريد لها الاستقلال في مسألة الغاز، فاليونان وقبرص وهما عضوان في الاتحاد الأوروبي وخطوط الأنابيب منهما إلى أوروبا، كل ذلك لا يروق لأمريكا، لذلك فإنها تدعم تهديد الاستقلال الأوروبي في مسألة الغاز عبر تركيا. بمعنى أن الرئيس التركي أردوغان يقوم بتهديد اليونان والتنقيب فيما تعتبره مناطقها البحرية الخالصة ودون اتفاق معها بدعم أمريكي خفي، لذلك شاركت سفن عسكرية أمريكية في المناورات العسكرية التركية، فقد أعلنت وزارة الدفاع التركية عن مشاركة المدمرة الأمريكية "يو إس إس واشنطن" في تلك المناورات (صحيفة تركيا الآن، 26/8/2020م)، كل ذلك رغم الحرج الأمريكي الشديد من مناصرة دولة داخل حلفها الناتو ضد دولة أوروبية هي الأخرى داخل الناتو، وكان ذلك مقابل مشاركة فرنسا، وهي الأخرى من دول الناتو، في المناورات العسكرية اليونانية، تلك المناورات وبعض الحشود العسكرية ونبرة التحدي... كل ذلك أوجد وضعاً خطيراً شرقي المتوسط هدد باندلاع مواجهات عسكرية بين دول الناتو، أي بين تركيا المدعومة من أمريكا من وراء ستار وبين اليونان المدعومة علناً من فرنسا، لولا ضبط هذا الأمر لاحقاً.
ب- ومن زاوية أخرى فإن سماح أمريكا بحدوث نزاع كبير كاد أن يتطور إلى أعمال عسكرية بين دولتين عضوين في حلف الناتو الذي تتزعمه دون أن تلقي بثقلها الكبير لحل الأزمة، يدل على انشغالها بمشاكلها الداخلية مثل فيروس كورونا وموضوع الانتخابات... وأنها توكل حالياً هذه الأعمال تجاه أوروبا وخاصة اليونان إلى أردوغان مع دعمها له بأساليب تراعي الحرج الأمريكي كون تركيا واليونان عضوين في الحلف الأطلسي الذي تتزعمه أمريكا، ولذلك تشارك أمريكا تركيا في المناورات العسكرية كدعم لها في هذه الظروف، هذا من جانب، ومن جانب آخر يقوم بومبيو بزيارة خاطفة لقبرص اليونانية، وتنشر آر تي (ودعا بومبيو تركيا إلى سحب قواتها من شرق المتوسط، حيث تنشط سفينة استكشافية تركية مدعومة بفرقاطات عسكرية. آر تي، 13/9/2020م). بمعنى أن أمريكا الداعمة لتركيا قد وجدت نفسها أمام حرج كبير من حلفائها الأوروبيين فاضطرت للطلب من الرئيس التركي أردوغان سحب سفينة التنقيب وهو ما كان، ثم التوجه للحوار والمفاوضات مع اليونان، وذلك لأن اليونان اشترطت للحوار سحب سفينة التنقيب التركية.
ثالثاً: مواقف الدول الأخرى:
1- إن موقف فرنسا كان هو الموقف الأوروبي الأقوى، فقد أعلنت منذ اللحظة الأولى وقوفها إلى جانب اليونان، وتحركت منفردة وقال رئيسها ماكرون ("قررت تعزيز الوجود العسكري الفرنسي مؤقتا في شرق المتوسط في الأيام المقبلة بالتعاون مع الشركاء الأوروبيين، بما في ذلك اليونان". وكالة الأناضول التركية، 13/8/2020م)، وقامت بمناورات بحرية مشتركة مع اليونان بمشاركة طائرات رافال التي نشرتها في قبرص، ثم قامت بمناورات أخرى في 26/8/2020م أشركت معها إيطاليا بالإضافة إلى اليونان وقبرص "الرومية"، كل ذلك على الرغم من أن لا نفوذ لها في المنطقة! وكل ذلك يدل على أنها تحاول أن تبني لها نفوذاً معتبراً من جديد، فقيامها بمناورات عسكرية مع اليونان في وقت تقوم فيه أمريكا بالمشاركة في مناورات مع تركيا فيه تحدٍ مبطن لأمريكا، وإشراكها لإيطاليا معها يدل على أنها تجند الدول الأوروبية معها ضد تركيا، وكذلك الاجتماع الذي عقدته لبعض الدول الأوروبية المتوسطية (إيطاليا ومالطا وإسبانيا بالإضافة إلى اليونان وقبرص الرومية)، وضغطها داخل الاتحاد الأوروبي والناتو لاتخاذ مواقف صارمة ضد تركيا، (وقال الرئيس الفرنسي: "نحن كأوروبيين علينا أن نكون واضحين وحازمين مع حكومة الرئيس أردوغان التي تقوم اليوم بتصرفات غير مقبولة"... ورأى أن "تركيا لم تعد شريكة في هذه المنطقة". فرانس24، 10/9/2020م). وكذلك (قال وزير خارجية فرنسا، جان إيف لو دريان، إن اجتماع المجلس الأوروبي المقبل مخصص لمعاقبة تركيا. وأشار إلى أن الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، يواصل التصعيد مع اليونان للتغطية على وضع بلاده الاقتصادي الصعب. إندبندنت عربي، 7/9/2020م).
وعلى الرغم من جرأة الموقف الفرنسي المناهض لتركيا ومحاولتها كسر عظم الرئيس التركي، وعلى الرغم من أن الرئيس التركي أردوغان ليس بـ"الفاتح" أو "القانوني" اللذين يسمي سفنه بأسمائهما وأنه لم يلقن فرنسا درساً في المتوسط ولم يغرق لها سفينة على الأقل نكالاً لآلاف الأميال التي قطعتها سفنها وطائراتها لكسر عظمه في فناء منزله... على الرغم من كل ذلك إلا أن السياسات الفرنسية تبقى ارتجالية وتفتقد إلى العمق، فقد سارعت مالطا للتنصل من حلفها مع فرنسا فقال وزير خارجية مالطا إيفاريست بارتولو خلال مؤتمر صحفي عقده مع نظيره التركي مولود تشاووش أوغلو (إنه يتعين على الاتحاد الأوروبي النظر إلى علاقاته مع تركيا من منظور استراتيجي. وأضاف بارتولو: "أعتقد أن الوقت قد حان ليتعامل الاتحاد الأوروبي بجدية مع تركيا، خصوصا في التجارة، وحقوق الإنسان، ومكافحة الإرهاب". وكالة الأناضول التركية، 12/9/2020م).
2- وأما بريطانيا فلم تعلق على توتر شرق المتوسط ما زاد من مخاوف فرنسا، بل إن فرنسا ومنذ "بريكست" قد أخذت تنظر بريبة للدور البريطاني، فتراها أحياناً تناوئها كما في الجزائر. وإذا كانت أسواق المال الهائلة في لندن تعطي بريطانيا مكانة في أسواق النفط والغاز خاصة في التسعير نظراً لارتباطها بخام برنت وما يتبعه من تسعيرات لباقي أنواع النفط، بل وللغاز الطبيعي أيضاً، فإن فرنسا وهي ترى بريطانيا تخرج من الاتحاد الأوروبي تبحث لنفسها عن مكانة في هذا القطاع فائق الحيوية دولياً، لذلك رأت أن ترسخ لنفسها قدماً في اليونان لعل ذلك يعينها أن تكون فاعلاً لا مستهلكاً فقط في مسائل الطاقة.
وفي المقابل فإن بريطانيا وهي تنظر إلى ما يشبه السياسة العقابية للاتحاد الأوروبي ضدها بسبب خروجها من الاتحاد الأوروبي فإنها تشق طريقها وترسم سياستها لنفسها، ولعلها تخوفت من الارتفاع المفاجئ للتوتر شرقي المتوسط، لذلك لم تتخذ مواقف معادية لتركيا، فاليونان لا تساوي لبريطانيا شيئاً قياساً بمصالحها التركية، ولا يركب موجة اليونان إلا متعصب أعمى كفرنسا! وهي قياساً ببريطانيا وألمانيا فاقدة لأي بصيرة ما يجعلها تعود بخفي حنين بعد الأعمال السياسية الشاقة التي تقوم بها، لكل ذلك هاجمه الرئيس التركي بقوة، فقال: ("سيد ماكرون سيكون لديك المزيد من المشاكل معي شخصيا". وأضاف: "إنك لا تمتلك معلومات تاريخية وتجهل حتى تاريخ فرنسا، فدعك من الانشغال بتركيا وشعبها"... القدس العربي، 12/9/2020م).
3- وأما ألمانيا فإنها هي الأخرى لم تنزلق خلف الموقف الفرنسي المعادي لتركيا، وعرضت الوساطة فيما فسره البعض على أنها تلعب دوراً كان يجب على واشنطن أن تلعبه، وظلت تنأى بنفسها عن الموقف الفرنسي وتتوسط وتدعو للحوار، وكان أبلغ مواقفها ضد تركيا ما صرح به وزير الخارجية الألماني هايكو ماس خلال زيارة لأثينا ("بخصوص التنقيب التركي في شرق المتوسط، لدينا موقف واضح جدا... يجب احترام القانون الدولي. لذا فإن إحراز تقدم في علاقات الاتحاد الأوروبي بتركيا سيكون ممكنا فقط إذا أوقفت أنقرة الاستفزازات في شرق المتوسط". وتابع أنّ التنقيب التركيّ قبالة سواحل قبرص يجب أن يتوقف. فرانس24، 22/7/2020م).
4- وأما روسيا، فقد عرضت أن تستخدم علاقاتها الحسنة مع تركيا للتوسط بين الطرفين، إلا أنها كعادتها عاجزة عن القيام بأي تحرك ذاتي، وإن كانت أعلنت عن مناورات عسكرية شرقي المتوسط رداً على المناورات الفرنسية، وربما أنها تريد التذكير بنفسها، (من المقرر أن تبدأ روسيا مناورات بحرية عسكرية بالذخيرة الحية في البحر المتوسط الثلاثاء المقبل، وتمتد حتى 22 سبتمبر، وأخرى من 17 إلى 25 سبتمبر الحالي، وفق ما نقلته وكالة بلومبيرغ نقلاً عن البحرية التركية. وقال المتحدث باسم البحرية الروسية إيجور ديجالو، "لدينا علاقات اقتصادية ودفاعية قوية مع تركيا، لكن سياستنا هي تجنب دعم أي من الجانبين". وتأتي المناورات الروسية عقب تدريبات عسكرية أخرى نفذتها فرنسا بالمنطقة، حيث قامت بنشر طائرات عسكرية وسفينة حربية لدعم اليونان وقبرص في النزاع. إندبندنت عربي، 7/9/2020م). أي أن الموقف الروسي يبقى هامشياً بانتظار الإشارة من وراء المحيط، لكنه يذكر بقوته.
رابعاً: لكل ذلك فإن الأزمة التركية اليونانية إن طالت فمن شأنها أن تحدث شرخاً عميقاً في العلاقات الدولية، فمن ناحية العلاقات على جانب الأطلسي فإن الدول الأوروبية تريد أن ترى مكانتها في عالم تنسحب أمريكا من قيادته باتجاه تركيزها على الصين ومشاكلها الداخلية المتنامية، فهذه الدول قد صارت تبحث عن دور بمعزل عن أمريكا، وأمريكا في ظل إدارة ترامب لا تتراجع عن تهديد المصالح الأوروبية باستخدام غيرها كما في أدوار روسيا وتركيا في ليبيا اليوم، والدول الأوروبية تتخوف بقوة من أن تجر أزمة شرق المتوسط إلى ضمور أحلامها بمصدر آمن للغاز الطبيعي إذا ما سيطرت تركيا على جزء كبير منه، ولأن تركيا مدعومة من خلف الكواليس من واشنطن فإن السياسة الفرنسية شرقي المتوسط تحاول رفض الأدوار التي ترسم في واشنطن لتركيا وكذلك لروسيا. وهذا الخلاف عبر الأطلسي لا يقل عن خلاف آخر داخل أوروبا نفسها، فإن الموقف الألماني هو ما حرم فرنسا من دفع أوروبا لمعاقبة تركيا، أي لم تنجح بإيجاد توافق داخل الاتحاد الأوروبي ضد تركيا فذهبت وجمعت دول أوروبا المتوسطية! إن ألمانيا تفكر كثيراً في مصالحها، بل وتاريخها مع تركيا، فقد حاربت ألمانيا والدولة العثمانية جنباً إلى جنب ضد الحلفاء في الحرب العالمية الأولى، والعلاقات الألمانية ظلت قوية مع تركيا لا يشوبها إلا (تشويشات) الرئيس أردوغان المدفوعة بالسياسات الأمريكية في كثير من الأحيان... هذا بالإضافة إلى الجالية التركية الكبيرة في ألمانيا.
خامساً: أما هل انتهت الأزمة أم لا فإن تركيا قد أعلنت عن اكتشاف مهم للغاز في البحر الأسود بمقدار 320 مليار متر مكعب، وهذا يدفعها للمزيد من التنقيب في البحر الأسود وشرقي المتوسط، فجهود تركيا لتخفيف أعبائها الاقتصادية متواصلة، والدعم الأمريكي لها متواصل لمضايقة أوروبا والضغط عليها وخاصة على فرنسا حتى لا تسير بعيداً في معاكسة السياسة الأمريكية في المنطقة والتشويش عليها!
لكن المؤلم حقاً أن البلاد الإسلامية خلال السنوات المئة الأخيرة بعد زوال الخلافة، دولة الإسلام الحقة ومبعث عز المسلمين، أصبحت هذه البلاد في ذيل الأمم، يتلاعب الكفار المستعمرون بمصائرها بأدواتهم من الحكام في بلاد المسلمين!! ومع ذلك فإن بزوغ الفجر يولد بعد ظلمة الليل خاصة وأن حزب التحرير يعمل في جنباتها لإعادتها بإذن الله كما كانت مكللة بالعز والنصر والنور، ﴿إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ * وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ﴾.
في الرابع والعشرين من صفر الخير 1442ه
11/10/2020مش
رأيك في الموضوع