في ظل هذه الظروف جاء الانقلاب على الرئيس أبو بكر كيتا ففرنسا ومن خلال تدخلها العسكري بالشمال أوصلت عميلها للحكم وأزالت القادة العسكريين منفذي انقلاب 2012 وبمساعدة دول الجوار الجزائر والمغرب استطاعت أن تسوق حركة الطوارق المتمردة منذ 1960 لاتفاق سلام، لكن ضباط الجيش غير الموالين لفرنسا يعملون على عرقلته ببث الفرقة بين الموقعين على الاتفاق بالرشاوي وبتسهيل أعمال الجماعات المسلحة وعدم مجابهتها بالحزم اللازم وبإثارة النعرات القبلية وعدم تقديم المساعادات اللازمة لاندماج المتمردين السابقين بالجيش، كما ينص على ذلك اتفاق السلام لـ2015. والجيش في رفضه للاتفاق يتقاطع مع الإمام أبو بكر كيتا الذي يعتبره مقدمة للانفصال، وهو وإن خرج بمظاهرة بعد ثلاثة أسابيع من وقوع مجزرة أوجاسوجو فإنه لم يطالب بمحاكمة العسكر وإنما طالب بتنحية رئيس الوزراء محملا إياه مسؤولية تهاونه في متابعة المتهمين رغم أن الرئيس كيتا قام يوما بعد المجزرة بحل المليشيا المسؤولة عن الهجوم وإقالة عدد من القادة العسكريين.
فالعسكر بأساليبهم والحراك السياسي بقيادة الإمام محمد ديكو ملهب المشاعر الإسلامية لدى الجماهير دون إغفال مشاعر العداء المتنامية في الشارع ضد فرنسا ومطالبتها بالرحيل حيث استنكر رئيس فرنسا ماكرون بقمة حلف شمال الأطلسي هذه المشاعر وأوضح أنه لا يمكن أن يطلب من جنوده المجازفة بمحاربة (الإرهاب) وحفظ أمن هذه البلدان، وفي الوقت نفسه مواجهة رأي عام في هذه البلدان نفسها يصدق بعض الأكاذيب التي تروج عنهم. كل هذه العوامل حاصرت عميل فرنسا وأسقطته من أعين المسلمين بمالي وجعلتهم يتطلعون لمن يخلصهم من فساده فجاء انقلاب الجيش يوم 18/08/2020 كالمنقذ واستقبل من المتظاهرين وحراك 5 يونيو بالقبول. فكانت المظاهرات والاحتجاجات بمثابة التفويض للعسكر ليقوموا بما قاموا به. فأمام نصب الاستقلال، استقبلت الحشود بهتافات الفرح مالك دياو الرجل الثاني في "اللجنة الوطنية لإنقاذ الشعب" التي شكلها الانقلابيون، والناطق باسم اللجنة العقيد إسماعيل واغي. وقال واغي أمام الحشد "جئنا لنشكر الشعب المالي على دعمه، ولم نقم سوى باستكمال العمل الذي بدأتموه". وفي كلمة ألقاها بالحشد، أعلن الإمام النافذ محمود ديكو أنه "عائد إلى المسجد"، قبل أن يشكر الانقلابيين، ويدعو إلى "طرد شياطين الانقسام" وقال "أنا إمام وأبقى إماما"، وقال المتحدث باسم الحراك نوهوم توجو لرويترز في وصفه للانقلاب "ليس انقلابا عسكريا وإنما انتفاضة شعبية". وتشير معلومات أن رئيس اللجنة الوطنية الحالي العقيد هاشم غويتا كان أسيراً في سجون الحركة الوطنية لتحرير أزواد في شمال مالي، وفي العام 2012 تم إطلاق سراحه بمبادرة من الشيخ محمود ديكو وكان وقتها رئيساً للمجلس الإسلامي الأعلى في مالي. فالجيش بعمله هذا ظهر بمظهر المنقذ الذي يخلص الشعب من الفساد فحظي بدعم داخلي قوي وأزاح عميل فرنسا أبو بكر كيتا من الحكم وسيسير في حماية قادته من المساءلة الدولية والمحاكمة على الجرائم التي ارتكبوها.
ولأن الوسط السياسي في مالي كثير منه موال لفرنسا فقد قدم الرئيس كيتا استقالته وفسح المجال للعسكر للسيطرة على البلد بدون اعتراض على أمل أن يتقاسم رجال فرنسا بحراك 5 يونيو ومن الوسط السياسي الموالي لفرنسا الحكم مع العسكر ثم يعودوا من بوابة الانتخابات. وكذلك العسكر ولتثبيت حكمهم وعدوا بانتقال لحكم مدني في مرحلة انتقالية بمدة زمنية معقولة كما أنهم استرضوا كل الأطراف الدولية باستجابتهم لمطلب هذه الدول بإطلاق سراح الرئيس المعتقل كيتا وبإعلانهم الاستمرار في محاربة التطرف والعمل بكل الاتفاقيات الدولية التي صادقت عليها مالي، فقد قال الناطق باسم العسكريين الكولونيل إسماعيل واغي مساعد رئيس أركان سلاح الجو إن "المجتمع المدني والحركات الاجتماعية السياسية مدعوة للانضمام إلينا لنقوم معا بإيجاد أفضل الظروف لانتقال سياسي مدني يؤدي إلى انتخابات عامة تتمتع بالصدقية للممارسة الديمقراطية عبر خارطة طريق ترسي أسس مالي جديدة". وطلب من المنظمات الدولية والإقليمية "مواكبتنا من أجل خير مالي". وأكد الكولونيل واغي أن بعثة الأمم المتحدة "مينوسما" وقوة برخان (الفرنسية لمكافحة الجهاديين) ومجموعة الدول الخمس لمنطقة الساحل وقوة "تاكوبا" (تجمع لقوات خاصة أوروبية لمواكبة الماليين في المعارك)، تبقى شريكاتنا". وأضاف أن "كل الاتفاقات الموقعة" ستحترم، مشددا على أن العسكريين "متمسكون بعملية الجزائر" اتفاق السلام الذي وقع في 2015 بين باماكو والمجموعات المسلحة المنتشرة في شمال البلاد. وأكد إسماعيل واغي أيضا "لسنا متمسكين بالسلطة لكننا متمسكون باستقرار البلاد الذي سيسمح لنا بأن ننظم في مهل معقولة انتخابات عامة ليتاح لمالي الحصول على مؤسسات قوية".
لقد استطاعت أمريكا أن تعود من خلال رجالاتها بالعسكر وأن تقوض جهود فرنسا وتسقط رجلها أبو بكر كيتا، فقد ذكرت الواشنطن بوست أن رئيس المجلس الانتقالي غويتا عمل لسنوات مع قوات العمليات الخاصة الأمريكية التي تحارب التطرف في غرب أفريقيا، وحسب البنتاغون، فإن غويتا شارك في تدريبات القيادة الأمريكية في غرب أفريقيا المعروفة باسم فلينتوك، وحضر ندوة ثنائية جامعية للعمليات الخاصة المشتركة في قاعدة ماكديل الجوية في ولاية فلوريدا. وإنه وإن نقل عن وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو، قوله: إن الولايات المتحدة تدين التمرد العسكري في مالي وترفضه، وكذلك تعليق الولايات المتحدة كل أشكال الدعم العسكري لمالي وفق ما أفاد المبعوث الأمريكي لمنطقة الساحل الأفريقي بيتر فام، فإن هذا الأخير برر هذا التعليق بقوله "إننا لا نعرف من هي بالضبط القوى المشاركة في التمرد ولا لمن ولاؤها" وهذا كذب صراح فقائد الانقلاب عمل مع القوات الأمريكية لسنوات. وإنه وإن تحدثت تقارير على أن القادة الحقيقيين للانقلاب هما مالك دياو وساديو كامارا وقد عادا من روسيا قبل أقل من أسبوع من الانقلاب العسكري وأن السفير الروسي أول من التقى الانقلابيين مع رفع أعلام روسيا بساحة الاستقلال في الحشد المؤيد للانقلاب، فإن هذا لا يعدو كونه إلزاماً على الطريقة الأمريكية لروسيا للقيام بالأعمال القذرة نيابة عنها. كما رفض فام وصف ما وقع بالانقلاب حيث قال "إن قرارا بشأن ما إذا كان سيتم رسميا وصف ما حدث مؤخرا بأنه انقلاب، يتعين أن يصدر بعد مراجعة قانونية" وساوى بين الانقلابيين والحراك السلمي السياسي بمالي وهو مدح للانقلابيين حين اعتراضه على تطور الأوضاع فقال "نتابع بقلق تطور الوضع اليوم في مالي، إن الولايات المتحدة تعارض أي تغيير للحكومة خارج إطار الدستور سواء من قبل الذين هم في الشارع أو من جانب قوات الدفاع والأمن"، وبيتر فام لما دعا لإطلاق سراح المعتقلين على إثر الانقلاب عرض بالرئيس كيتا واصفا إياه بالضعف فقال "الذي لم يعد شاباً وصحته ضعيفة".. إن موقف أمريكا غير الحازم من الانقلاب يشير إلى أن رجالاتها بالجيش هم من وراءه وأن لها يدا فيه.
بينما فرنسا قالت على لسان وزير خارجيتها جان إيف لودريان إن باريس "تدين بأشد العبارات هذه الواقعة الخطيرة". وطالبت باجتماع مجلس الأمن الذي عقد اجتماعا شدد فيه على "الضرورة الملحة لإعادة سيادة القانون والتحرك نحو استعادة النظام الدستوري"، وكذلك الاتحاد الأوروبي قال إنه "يدين محاولة الانقلاب الجارية في مالي ويرفض أي تغيير غير دستوري". وقد أشار تقرير لفرانس24 يوم 20/08/2020 أن الدافع للانقلاب هو الصراع بين قادة الجيش والرئيس كيتا الذي اتهم الجيش بارتكاب جرائم وأن القشة التي قصمت ظهر البعير هي اعتقال قائد الحرس الرئاسي وأن الانقلابيين استغلوا غضب الشارع لتنفيذ انقلابهم. ونطق التقرير بما تتمناه فرنسا وهو أن لا يستقر الوضع للعسكريين.
أما المجموعة الاقتصادية لغرب أفريقيا (ايكواس) التي تقودها نيجيريا موطئ قدم أمريكا بأفريقيا فموقفها يتماهى مع موقف أمريكا فرغم أنها أقرت عقوبات ضد مالي، تمثلت في تعليق عضويتها في المجموعة، وإغلاق الحدود البرية والجوية معها، بالإضافة إلى تعليق جميع أشكال التبادل التجاري والاقتصادي والمالي معها، حتى العودة إلى الوضع الدستوري، لكن بعد لقاء وفد ايكواس المجلس العسكري أعلن في بيان له أن الرئيس المقال كيتا لا يرغب في العودة للحكم مما فتح الباب أمام تخفيف العقوبات على مالي حيث اكتفت المجموعة فيما بعد بمطالبة المجلس العسكري بالبدء فورا بعملية "انتقال مدني" للسلطة وتنظيم انتخابات خلال 12 شهرا، مقابل رفع تدريجي للعقوبات. وهو اعتراف ضمني بسيطرة المجلس العسكري على الحكم وخضوع للأمر الواقع.
إن ما وقع بمالي صراع دولي بين أمريكا وفرنسا؛ فالأولى من خلال عملائها بالعسكر تسعى لتجد لها موطئ قدم بمالي ومن خلالها بالمنطقة وهي تريد حمايتهم من الملاحقات الدولية على الجرائم التي ارتكبوها، والثانية من خلال الوسط السياسي الفرنكفوني تحارب وبقواتها العسكرية للإبقاء على نفوذها بمستعمرتها القديمة وتقصقص أجنحة أمريكا بالعسكر وتثير القضايا الجنائية ضدهم. وإن أمريكا غير متسرعة فهي تقبل بتقاسم الحكم في الفترة الانتقالية بين رجالها ورجال فرنسا إلى أن ينضج الوضع لطرد النفوذ الفرنسي والحلول مكانه. وفرنسا لاهتزاز صورتها في الشارع المالي وفشل تدخلها العسكري في القضاء على التمرد والجهاديين وتوحيد مالي رضيت بالحل الوسط أملا في أن تستعيد الحكم لها كما فعلت مع انقلاب 2012 فاكتفت بعد استقرار الانقلاب بمطالبته بالعودة للوضع الدستوري ورضيت باستمرار الحرب على الإرهاب وإعطائها الأولوية.
لقد آن الأوان أن تكون أمثال هذه الانقلابات لله، وأن يكون العمل السياسي لله، وأن تنتفض الشعوب لله... هذا الثلاثي هو وصفة النجاح والفلاح في الدنيا والآخرة.
رأيك في الموضوع