يعرف الموقف الدولي بأنه هيكل العلاقات الدولية المؤثرة، أي أنه يتعلق بالدول المؤثرة، ولهذا يجري البحث في مدى تأثير هذه الدولة أو تلك على الدول الأخرى، فكلما ازداد التأثير ارتفع موقف هذه الدولة دوليا، وتستمر في رفع مستوى تأثيرها حتى تصل إلى دولة كبرى إذا كانت لديها مواصفات الدولة الكبرى، وإذا استطاعت أن تتحكم في أحداث العالم ومتغيراته وتؤثر على الدول الكبرى الأخرى وتفرض إرادتها عليها فإنها تصبح دولة أولى في العالم. فهذا البحث يقتضي متابعة الأحداث العالمية ومتغيراتها ودراسة عوامل وعناصر التأثير ومدى قوة هذه العوامل وضعفها حتى يدرك أن هذه الدولة أو تلك قد ضعف تأثيرها أو قوي، سقطت أم ارتفعت...
ولهذا كان الموقف الدولي غير ثابت، ففيه قابلية التغير والتبدل حسب تلك العوامل والعناصر، وهذه المتغيرات تتعلق بوضع الدول الكبرى داخليا من كل ناحية أو وضعها في مناطق نفوذها، أو شدة تزاحمها على مركز الدولة الأولى والعمل على زحزحتها عن هذا المركز، أو مدى مشاركتها للدولة الأولى في الأعمال الدولية والتأثير عليها، ومدى تأثير هذه الدولة الكبرى أو تلك على الدول الصغرى لترفع من أسهمها دوليا فتتسع دائرة تأثيرها مما يعزز موقفها الدولي ووقوفها في وجه الدولة الأولى.
فتقوم الدول الكبرى بكل ما أوتيت من قوة ومن وسائل وأساليب بالعمل على زحزحة الدولة الكبرى الأولى عن هذا المركز أو التأثير عليها لمشاركتها لرفع مستواها دوليا ولتقاسم الغنائم وتعزيز النفوذ، وتقوم بالعمل على استغلال أزمات الدولة الأولى ونقاط ضعفها وتقلب أوضاعها في داخلها وفي مناطق نفوذها وأوضاع العالم بشكل عام لتحقيق ذلك، ولا يهدأ لها بال ولا تغمض لها عين حتى تحقق ذلك. فإن ذلك من صفات الدولة الكبرى، وإلا لا نسميها دولة كبرى فعلا، وكذلك الدول الأخرى التي تعمل لأن تصبح دولة كبرى يجب أن تتمتع بهذه الصفات، أي أن تنشط على هذا المستوى. والدولة التي لا تتمتع بهذه الصفات ولا تقوم بمثل تلك الأعمال وليس لديها الدافع لتقوم بذلك، فإنها لا تعد دولة كبرى عالميا. فإنها إما أن تكون دولة كبرى إقليميا وتكون مستقلة كالصين، وإما أن تكون دولة صغرى مستقلة كسويسرا وهولندا، وإما أن تكون دولة تدور في الفلك ككندا واليابان، وإما أن تكون دولة تابعة، ومثل ذلك أكثر دول العالم في أفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبية.
ولقد طرأت ظروف مؤخرا على وضع أمريكا الدولة الأولى، تشير إلى احتمال حصول تغير في الموقف الدولي. ولذلك تحتم علينا أن نبحث هذا التغير الذي طرأ؛ كيف طرأ ومدى حجمه والحالة التي أصبح عليها. إذ إن مصير العالم معلق بالدول الكبرى فهي التي تسيّر الأمور، وتشعل الحروب الكبرى والحروب الصغرى في مناطق النفوذ وتتولد عنها الأزمات الكبرى وأحيانا الأزمات في الدول التابعة. فالدول الصغرى هي دول متأثرة، وربما تكون دولة صغرى أكبر من دولة صغرى أخرى فتؤثر عليها بمدى ما تسمح لها الدولة الكبرى التي تتبعها. فمثلا مصر تؤثر على السودان، وسوريا تؤثر على لبنان، والسعودية تؤثر على البحرين وهكذا... والتقلبات السياسية في الدول الصغرى كثيرا ما تتعلق بالدول الكبرى التي تتبعها وبالصراع الدولي عليها. والدولة الصغيرة إذا حصل فيها تغير مستقل سرعان ما تسارع الدول الكبرى للتدخل بأشكال مختلفة لمنع إتمامه، وخاصة إذا حصل في الأمة الإسلامية التي لديها مؤهلات الدولة الكبرى الأولى عالميا وليس الدولة الكبرى فحسب. وهذا ما حصل عندما اندلعت الانتفاضات والثورات بشكل عفوي في البلاد الإسلامية وخاصة العربية فسارعت الدول الكبرى للتدخل ومنع استقلالها ومحاصرتها وإبقائها في دائرة صراعها، وإذا حصل تدخل من الدول الكبرى فتدول المسألة وتصبح قضية صراع بين الدول الكبرى كما حصل مؤخرا في ليبيا، وتمنع من تحولها إلى صراع بين الأمة والدول الكبرى كما فعلت في سوريا.
فبعد تهاوي الاتحاد السوفيتي عام 1989 وسقوطه نهائيا عام 1991 وفقدانه لكتلته الشرقية التي يعتبرها منطقة استراتيجية مهمة وخط دفاع أمامي له وكان يشكل بها حلف وارسو، وذلك بسبب أمور داخلية وتنازلات مبدئية وهزات اقتصادية خاصة بعد خوضه حرب النجوم الوهمية ومن ثم حدوث انكسارات عسكرية له كما حدث في أفغانستان، سقط عن مرتبة الدولة العظمى الثانية التي كانت تنافس أمريكا الدولة الأولى في العالم، فعندئذ استغلت أمريكا الوضع الدولي الجديد عندما لم تجد منافسا ومزاحما لها على مركزها، لتقوم وتعلن تفردها في الموقف الدولي لتصبح الدولة الأولى بلا منافس أو مشارك، حيث سقط الاتحاد السوفيتي شريكها الوحيد في إدارة العلاقات الدولية منذ توقيع سياسة الوفاق بينهما عام 1961 عندما تقاسما العالم بين نفوذهما.
ولم تقدر روسيا على أن تحل محل اتحادها السوفيتي فباتت منهكة القوى محطمة الأضلاع بعدما كانت قائدته، بل كان الاتحاد السوفيتي يتمثل بها والجمهوريات الأخرى الأربع عشرة تابعة لها، وهي تشكل بالنسبة لروسيا منطقة نفوذ طبيعية، ففقدت نفوذها في قسم منها، وإن شكلت مع إحدى عشرة دولة (رابطة الدول المستقلة) لتربطها بها وتبقي على نفوذها فيها، بل فقدت بعضها مثل أوكرانيا وجورجيا وصارت تلاحَق في القسم الباقي تحت نفوذها وخاصة في دول آسيا الوسطى الخمس. وبذلك تلقت روسيا من جراء انهيار الاتحاد السوفيتي ضربة قاضية لم تقدر على أن تنهض على قدميها من أرض الحلبة إلا بعد انتهاء العد لعشر سنوات ونيف... حتى بعد ذلك لم تقدر على أن تعود كما كانت عليه سابقا.
وهكذا حدث التغير في الموقف الدولي بدون حدوث حرب عالمية أو حروب كبيرة تسبب هزيمة للدولة الكبرى كما هو معتاد تاريخيا في سقوط الدول الكبرى، فلم تحدث حرب كبرى تسقط الاتحاد السوفيتي أو روسيا التي تمثله بحيث تنهزم الدولة وتسقط، فيدخل العدو المنتصر عاصمة تلك الدولة كما حدث مع الدولة العثمانية وألمانيا في الحرب العالمية الأولى، وكما حصل مع ألمانيا واليابان وإيطاليا في الحرب العالمية الثانية، ويملي العدو المنتصر على عدوه المنهزم الشروط التي يريدها ويفرضها عليه، فتصبح الدول الكبرى المنتصرة هي سيدة الموقف الدولي.
وقد أصاب أمريكا الغرور بعد سقوط الاتحاد السوفيتي المنافس الرئيس لها، فأظهرت الغطرسة والعنجهية وضربت بطلبات واعتراضات الدول الكبرى الأخرى عُرْضَ الحائط، فقامت وتدخلت عسكريا في البلقان من دون قرارات دولية، واحتلت أفغانستان، ومن ثم احتلت العراق بذرائع كاذبة وبدون قرارات دولية من مجلس الأمن الدولي كما جرى الاتفاق عليه من الخضوع للقانون الدولي منذ تأسيس الأمم المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية عندما تغير الموقف الدولي. وهكذا تكون أمريكا قد خرقت القانون الدولي الذي أقرته في الأمم المتحدة وهي الطرف الرئيس في تأسيس هذه المنظمة عام 1945. وبذلك تكون أمريكا قد زعزعت الثقة بها وبالمنظمة الدولية. وهذه من عوامل السقوط لها وللمنظمة؛ لأنه كلما انتهكت قانونا دوليا تقره أو عرفا عاما لدى شعوب الأرض وقد قبلته، تضعف الثقة بها وبمصداقيتها فيسقطها من عيون الناس ولا يعودون يكنون لها الاحترام والاستعداد لمتابعتها واتباعها، فيبدأون بمهاجمتها والتصدي لها والتمرد عليها مما يعقد الأمور أمام تأثيرها على الدول والشعوب الأخرى؛ لأن تأثيرها يعتمد على الثقة بها وبمصداقيتها والتزامها بالقوانين الدولية والأعراف العامة.
فمثلا في بداية عام 2001 عندما أعلنت مرة ثانية سياسة التفرد في الموقف الدولي غير مكترثة بالدول الكبرى الأخرى ومعارضة الشعوب لسياستها. وأعلن رئيسها جورج بوش الابن أن من ليس مع أمريكا فهو ضدها، فأثارت غضب العالم عليها فأصبح كثير من الناس يكرهها ويطالب باتخاذ مواقف ضدها. فاستغلت الدول الكبرى الأخرى ذلك الواقع، فقامت فرنسا وجلبت معها ألمانيا وروسيا فشكلت محور معارضة للاحتلال الأمريكي للعراق، فأثر ذلك على أمريكا مما اضطر بوش لأن يقوم يوم 21/2/2005 بزيارة بروكسل ليصالح الأوروبيين فيما عرف برحلة بوش لإصلاح العلاقات مع أوروبا فصرح هناك قائلا: "بأن الولايات المتحدة تدعم ظهور أوروبا قوية، لأننا بحاجة إلى شريك قوي لإنجاز المهمات الجسام التي تنتظرنا وعلى رأسها تحقيق الحرية والديمقراطية في العالم". (صفحة الإذاعة الألمانية 21/2/2005) وقال في اليوم نفسه عندما التقى شيراك: "قامت خلافات بيننا، لكن علينا وضعها جانبا الآن". (نفس المصدر).
رأيك في الموضوع