العنصرية والداروينية والاستعمار والإبادة ليست خللا فكريا ولا هي ظواهر انحراف ولا أحداثا طارئة على منظومة الحداثة الغربية، ولا سياقا خارج نص الفكر العلماني المادي الغربي، بل هي نسق مفاهيمي من صلب الفكر العلماني، وظواهر وأحداث من صميم التركيب الجيني لمنظومة الحداثة الغربية، فنحن في صلبه وصميمه وليس على حواشيه وأطرافه.
فبذور التأسيس لفلسفة العنصرية هي العقل العلماني المادي ذاته، والعنصرية إحدى إفرازاته، فالعقل العلماني المادي انتهى في تفسيره المادي للإنسان إلى مادية صرفة تجعل الإنسان والحيوان واليرقة مادة صرفة خاضعة لقوانين المادة الشاملة ومعيار التطور المادي البقاء للأقوى.
وعليه أنتج العقل العلماني المادي نظرته ورؤيته الفلسفية للبشر، هذه الرؤية المادية التي استحال وانتفى معها رؤية البشر بوصفهم مجموعات بشرية تؤمن بدين أو منظومة قيم ما، ما وراء المادة ومتجاوزة للمادة، يمكن الاحتكام إليه أو إليها في تحديد الخير والشر، الحسن والقبيح، الأهداف والغايات، المقاييس والمعايير. بل البشر في التفسير العلماني المادي الصارم هم مجموعات تتسم ببعض السمات الإثنية والعرقية المادية الكامنة فيها.
وهنا أصبح العرق معيارا ماديا ومنتجا علمانيا أصيلا، فالعرق مادة ومسألة وراثية بيولوجية كامنة في الإنسان ويمكن تعييرها وترجمتها ماديا، وبناء عليه أنتج الفكر العلماني المادي الغربي فرعا من فروع ثقافته لفلسفة العنصرية وتأصيلها معرفيا، أسماه علم الإنثربولوجيا، واتجهت الدراسات العنصرية للعرق إلى التركيز على حجم جمجمة الإنسان ولون بشرته وشعره وعينيه وطوله وقوة عضلاته كمعايير للفرز والتصنيف باعتبار الإنسان مادة محضة، يتسم بصفات مادية صرفة، ويقاس ويقيم بطريقة مادية صارمة لا غير، وأن بقاء هكذا كائن مادي منوط بطبيعته المادية وتراتبيته العرقية على سلم التطور المادي للطبيعة المادة.
وبناء على هذه الرؤية المادية ومعاييرها المادية (بيولوجي، وراثي، بيئي)، وبوصفها إفرازا من صاحب الرؤية كان الانتصار لجنسه وعرقه الأبيض من مخرجات نتائجها، من باب انحياز صاحب الموضوع لموضوعه، وهنا أفرز الفكر العلماني المادي الغربي عنصرية حداثته. ومنح جنسه الأبيض وعرقه الآري الذي زعم تفوقه مزايا ومكانة لا تمنح ولا ينبغي أن تمنح لغيره. وبنى مرتكزات عنصرية حداثته وتمييزه العنصري العلماني الذي أفرز الاستعمار والإبادة على أسس عدة منها:
أ- الجنس الأبيض هو الجنس الأعلى على سلم التطور المادي
ب- الحضارات غير الغربية أدنى بكثير من الحضارة الغربية (من هنا كان شعار الاستعمار تحضير الشعوب البدائية)
ج- الشعوب غير الغربية تختلف عرقيا عن الشعوب الغربية، وهو اختلاف وراثي مادي صارم حتمي فهي إذا عرق أدنى.
د- الحضارة والعرق متلازمان، فالدونية والتخلف الحضاري للأعراق غير الغربية أمر وراثي مادي صارم وبالتالي حتمي.
وقد بين المفكر النازي ألفريد روزنبرج أثناء محاكمته في نورمبرج أن العنصرية النازية ليست بدعة ولا نشازا، وأن العنصرية جزء أصيل من الحضارة الغربية الحديثة، وأكد لقضاته أن العنصرية إفراز طبيعي للحداثة الغربية وأن هناك علاقة عضوية بين العنصرية والاستعمار، وأشار في محاكمته أمام قضاته لبذور العنصرية في مؤلفات عالم الأجناس الأمريكي ماديسون جرانت وعلامة الأعراق الفرنسي جورج دي لابوج. وأضاف قائلا: "إن هذا النوع من الإنثربولوجيا العنصرية ليس سوى اكتشاف بيولوجي جاء في ختام الأبحاث التي دامت 400 عام". أي أن العنصرية النازية هي الثمرة الطبيعية لبذرة الفكر العلماني المادي الغربي، ومعنى هذا أن العنصرية هي وليدة الرؤية المعرفية للعقل العلماني المادي الغربي.
فالعنصرية نتاج معرفي للعقل العلماني المادي الغربي وليست خللا مفاهيميا ولا انحرافا سلوكيا، فبذورها عميقة في الفكر العلماني الغربي، من منظريها مؤسسو الفكر العلماني الغربي، فهذا الفيلسوف الألماني إيمانويل كانت (1724-1804) زعم أن الذكاء وبناء الحضارات يخضع لتراتبية الأجناس والأعراق وفي أعلى السلم الجنس الأبيض يليه الأصفر، والأسود والأحمر هما الأقل ذكاء وتطورا. والفيلسوف الإنجليزي ديفيد هيوم (1711-1776) حيث يقول: "أنا لا أشك أبدا أن الزنوج وجميع أنواع البشر هي بالطبيعة في مستوى أدنى من الإنسان الأبيض"، ثم أفكار داروين والفرنسي دي لابوج الذي كتب عام 1887 يقول: "أعتقد أن الملايين سيقومون بقطع رقاب بعضهم بعضا بسبب درجة أو درجتين في دليل الجمجمة". ثم هناك الفيلسوف الألماني نيتشه الذي كان له الأثر الأبلغ في صياغة المشروع الحداثي الغربي وصاحب فلسفة القوة إذ يقول: "البشرية يتم التضحية بها من أجل نوع من الرجال هم الأكثر قوة ليسودوا، وهذا هو التطور"، ويضيف "المتفوق الذي يقر بأن البشر غير متساوين ولا يمكن أن يتساووا". وكذلك مؤسس فلسفة ما بعد الحداثة الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر الذي يعتبر فيلسوف النازيين وعقل عنصريتهم.
والذي زاد من جذور العنصرية الغربية صلابة أنها تتغذى ليس فقط من سماد وأملاح الفكر العلماني الحداثي بل كذلك من الموروث الثقافي الغربي في شقه الفلسفي اليوناني والقول المأثور لدى الإغريق (الإغريقيون لا يمكنهم استيعاب أن هناك حياة بلا عبيد)، وشقه السياسي روما القديمة وحجم عبيدها، ثم الشق الكنسي والتأصيل الديني للعنصرية، فهذا الكاهن والفيلسوف البرتغالي أنطونيو فييرا يرى في تجارة الرقيق امتثالا لما ورد في الكتاب المقدس، وقبله في عام 1442 أعلن البابا يوجيستيانس الرابع رعايته ومباركته لحملات خطف ساكنة أفريقية لاسترقاقهم، وكان للكنيسة نصيبها من الأسلاب. وذاك ما جعل العنصرية متجذرة في الثقافة الغربية وبين ثنايا أحشائها، راسخة عميقة في تفكير الخاصة والعامة عريقة في سلوكياتهم.
فالتاريخ العنصري الغربي هو الترجمان الحقيقي للثقافة العنصرية الغربية، فجذور الفكر الغربي ضاربة في أعماق الشر، بل ماء وأملاح غذاء جيناته شر محض، فالعلمانية الغربية هي الرحم المشؤومة التي تخلق فيها ومن نطف فكرها العلماني المادي الملعون العنصربة والداروينية والمالتوسية والسادية والاستعمار والإبادة الجماعية... فلقد أباد الغربيون البيض سكان أمريكا الشمالية من الهنود الحمر، حيث أبيد 6 مليون من مجموع 6,5 مليون حسب تقديرات أعدادهم لسنة 1500 عند وصول العرق الأبيض وتم إغفال نسبة التزايد السكاني، ما جعل بعض الباحثين يقدرون العدد الفعلي الذي أبيد منذ القرن السادس عشر حتى القرن العشرين بعشرات الملايين، وتكررت الإبادة بأستراليا وأمريكا الجنوبية وأفريقيا فضلا عن مآسي الرق وجحيم الاستعمار. وما عنصرية اليوم إلا قطرة من بحر عنصرية الغرب.
ليست العنصرية خللا معرفيا ولا انحرافا سلوكيا في حضارة الغرب، بل هي فلسفة حياة أفرزتها مادية الغرب الجافة اليابسة، هي ظلمات بحره اللجي موج يعلوه موج وظلمات بعضها فوق بعض، ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور.
فلا خلاص ولا نجاة من هذا الجحيم الأرضي الذي صنعته حضارة الغرب البائسة إلا بالتخلص من هكذا حضارة، ولا يكون ذلك إلا بقذف حق الإسلام العظيم وخلافة نبوته على باطل علمانيتها وضرار دويلاتها القومية والوطنية، فيدمغه فإذا هو زاهق، وللغرب الويل مما يصفون.
﴿وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾
رأيك في الموضوع