إن دول الغرب التي تعِيش في عَصر التكنولوجيا والعولَمة قد انكشف عوارها وظهر للمَلأ أنها تُهمل المنظومة الصحية التي كان من الواجب الاهتمام بها ووضعها في سُلم الأولويات وإنفاق الأموال من أجلها بسخاء، لأن الأمر يتعلق بحياة الناس، ووضع الخطط الاستراتيجية تحسباً لأي وباء أو كارثة قد تحدث، وإجراء ما يلزم حسب الحاجة، حتى لا يتأزم الوضح الصحي في البلاد، مثل ما نراه الآن في الولايات المتحدة ودول أوروبا.
ولكن ما يحدث خلاف ذلك، فقد قام دونالد ترامب بتقليص ميزانية الإدارات الصحية في الولايات 21% في موازنة ترامب الأولى عام 2017، كما قام بإغلاق مكتب الأوبئة التابع للبيت الأبيض والذي كان باراك أوباما قد أنشأه عام 2014 في أعقاب تفشي فيروس إيبولا لضمان استجابة وطنية سريعة ومنسقة بشكل جيد لمواجهة أي وباء جديد.
نقل موقع بي بي سي خبر استقالة رئيس مجلس البحوث العلمية في الاتحاد الأوروبي ماورو فيراري من منصبه، بعد ثلاثة أشهر من توليه، مهاجما الجهات العلمية والعمليات السياسية، وقال فراري: (إنه فقد إيمانه بالنظام بعد عدم تمكنه من وضع برنامج خاص لمكافحة فيروس كورونا) 08/04/2020.
إن ما يحصل في المنظومة الصحية في الدول الكبرى يؤكد جشع النظام الرأسمالي النّفعِي، الذي لا يهتم بحياة النّاس، بل يسعى إلى تكديس المال في أيدي قلة قليلة من البشر وإنفاقه في بُؤَر الفساد والرذيلة وسباق التسلح لإشعال الحروب في العالم، في عام 2018 أمريكا والصين والسعودية الأكثر إنفاقاً على التسلح حسب تقرير "سيبري" الذي يصدر بشكل سنوي (بلغ الإنفاق العسكري العالمي أكثر من 1.8 تريليون دولار (1822) مليار دولار بزيادة 2.6% خلال سنة، ووفقا للمعهد فإن هذا يعني نصيب كل فرد على مستوى العالم 2390 دولارا للشخص الواحد). صحيفة الملتقى العربي 30/04/2018.
هكذا تنفق الأموال من أجل صراع دولي تديره دول الغرب بواسطة عملاء، لسفك دماء الأبرياء الضعفاء الذين يبحثون عن لقمة العيش ومأوى يحفظهم في بلادهم في سوريا واليمن وليبيا وغيرها من بلاد المسلمين.
تُعد سياسات الخصخصة المنبثقة من النظام الرأسمالي من أهم الأسباب التي أدت إلى فشل المنظومة الصحية في دول الغرب. فمثلاً أمريكا تنفق 17% من دخلها القومي على الصحة، رغم ذلك فإن نسبة من لديهم تأمين صحي شامل فيها لا يتجاوز 30%، لأن معظم الإنفاق يذهب لجيوب شركات التأمين، وليس للناس وصحتهم، ولا للصحة الوقائية أو الأولية، ولأن أسعار الخدمات العلاجية التي تفرضها الشركات خيالية.
حسب النظرة الرأسمالية فإن عملية إجراء فحوصات المسحة الطبية لعدد مهول من الناس وشراء مزيد من الأجهزة الطبية خاصة أجهزة التنفس الصناعي تُؤدي لإنفاق أموال طائلة، بسبب تلك الحُجج الواهية تلكَّأت دول الغرب ولم تتسرع في إجراء المسحة الطبية لرعَاياها للحد من انتشار الوباء ما أدى لانتشار فيروس كورونا حسب رأي بعض الاختصاصيين في المجال الطبي. لذا وجد الأطباء والممرضون في دول الغرب أنفسهم في مواجهة ضغوط متزايدة بعد ارتفاع عدد حالات الإصابة بفيروس كورونا بشكل كبير وازدياد حالات الوفاة وسط الطواقم الطبية.
وقد صرح مدير منظمة الصحة العالمية تيدروس أدهانوم قائلاً: (إن بعض الدول سجلت في تقاريرها أن 10% من عناصر القطاع الصحي أصيبوا بفيروس كورونا، بينما يتزايد القلق من انتشار الوباء أكثر فأكثر بين أعضاء الكادر الطبي في العالم) موقع الجزيرة نت، 10/04/2020.
وفي السياق ذاته (قالت ماريا لوبيفارو، وهي ممرضة تعالج قدامى المحاربين المصابين بكورونا في نيويورك، إنهم عادة يغيرون الأقنعة بعد كل تعامل مع المريض. لكنهم الآن يحصلون على قناع طبي واحد لاستخدامه طوال فترة العمل الممتدة لمدة 12 ساعة) موقع سكاي نيوز العربية، 27/3/2020. وبسبب نقص الكمامات (خرج عشرات العاملين في قطاع التمريض في كاليفورنيا تظاهروا للمطالبة بتسهيل الحصول على الكمامات) قناة آر تي الروسية، 04/04/2020.
كيف لمثل هذه الدول أن لا تتوفر لديها أبسط المستلزمات الطبية مثل الكمامات والمراييل والأقنعة وغيرها من المستلزمات الطبية التي تُعالج المرضى وتقي طواقمهم الطبية من الإصابات والمخاطر؟!
(كتبت أريانا إيونجونغ تشا تحقيقاً في صحيفة "واشنطن بوست" الأمريكية تناولت فيه المعضلة الأخلاقية والقانونية التي تواجه الأطباء والمستشفيات في مواجهة فيرورس كورونا المستجد حيث يضطر الأطباء إلى الاختيار بين المرضى ومنح الأولوية للأطفال والشباب على المسنين والمرضى بأمراض مزمنة، وذلك بسبب محدودية عدد أجهزة التنفس) موقع ميادين، 16/03/2020. يا له من أمر مفزع! لماذا التعامل بهذه الطريقة حتى مع كبار السن في دول تدعي أنها تحمل لواء الإنسانية؟!
انظروا كيف اهتمت دولة الخِلافة بمنظومة الرِعاية الصِّحية وعملت على بِناء المستشفيات المجَهزة بكل المستلزمات الطبية في المدن لخِدمة الرعِيَة وكانت تُعرف (بالبيمارستان)، وقدْ شهدَ الغربيونَ أنفسهمْ بذلكَ، فَالمسيو جومار (Gomar) أَحَدُ علماءِ حملةِ نابليونَ كَتَبَ واصفاً أحدَ البيمارستناتِ (المستشفياتِ) التي بُنيتْ قبلَ ستةِ قرونٍ منْ حملتِهِ على مصرَ: "وكانَ يَدْخُلُهُ (أيِ البيمارستان) كلُّ المرضى، فقراءَ وأغنياءَ، بدونِ تمييزٍ، وكانَ يُجْلَبُ إليهِ الأطباءُ منْ مختلفِ جهاتِ الشرقِ وَيُجْزَلُ لهمُ العطاءُ، وكانتْ لهُ خزانةُ شرابٍ وصيدليةٌ مُجَهَّزَةٌ بالأَدويةِ والأَدواتِ. ويُقالُ إنَّ كلَّ مريضٍ كانتْ نفقاتُهُ ديناراً، وكانَ لهُ شخصانِ يقومانِ بخدمتِهِ، وكانَ المُؤَرَّقُونَ منَ المرضى (أيِ المرضى النفسيونَ) يُعْزَلُونَ في قاعةٍ منفردةٍ يُشَنِّفُونَ فِيهَا آذانهمْ بسماعِ ألحانِ الموسيقى الشجيةِ أوْ يتسلونَ بسماعِ الحكايَا يُلْقِيهَا عليهمُ الحَكَوَاتِيُّ. وكانَ المرضى الذينَ يستعيدونَ صحتهمْ ويتماثلونَ للشفاءِ يُعْزَلونَ عَنْ باقي المرضى في فترةِ نقاهةٍ. وكانَ يُعطى لكلِّ مريضٍ حينَ خروجِهِ منَ البيمارستانِ خمسُ قطعٍ منَ الذهبِ، حتى لا يُضْطَّرَ إلى الالتجاءِ إلى العملِ الشَّاقِّ في الحالِ". مجلة الوعي، العدد (٢٧٧)
دولة الخلافة لها قصب السبق في المستوصفات المتنقلة لعلاج المرضى. يقول الدكتور أحمد عيسى في كتابه "تاريخ البيمارستنات في الإسلام": (المسلمون هم أول من أنشأ البيمارستان المحول، وهو مستشفى مُجهَّز بجميع ما يلزم للمرضى وللمداواة من أدوات وأدوية وأطعمة وأشربة وملابس وأطباء وصيادلة، يتنقل من بلد إلى آخر من البلدان الخالية من بيمارستنات ثابتة، أو التي يظهر فيها وباء أو مرض مُعدٍ، وهذا أحدث وسائل العصر للعلاج السريع).
يا من تعِيشُون في بلاد الغرب اعلموا أن النُظُم الرأسمالية لن تضمن لكم حياة كريمة ولن تقف معكم في الشدائد والمحن، وهذا ما رأيتموه عين اليقين اليوم في خضم هذا الوباء. إن دولة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة القائمة إن شاء الله هي التي تنقذ البشرية من براثن الرأسمالية وظلمها إلى عدل الإسلام ونوره.
بقلم: الأستاذ الصادق علي (أبو محمد)
رأيك في الموضوع