ادّعى خليفة حفتر قائد ما يسمى بالجيش الوطني الليبي يوم 27/4/2020 قائلا "نعتز بتفويض الليبيين للقيادة العامة لهذه المهمة التاريخية في هذه الظروف الاستثنائية، لإيقاف العمل بالاتفاق السياسي ليصبح جزءا من الماضي بقرار من الشعب الليبي مصدر السلطات.. نعلن استجابة القيادة العامة لإرادة الشعب".
إن أول نقطة يجب إدراكها هي أن حفتر عميل أمريكي، وكل تصرفاته يجب أن تفهم من هذه الزاوية. فقد حمله الأمريكان من تشاد عام 1990 حيث كان أسيرا إلى ولاية فرجينيا ليعيش في كنفهم عشرين عاما، دربته أثناءها المخابرات الأمريكية على حرب العصابات ومن ثم أعادته إلى ليبيا بعيد اندلاع الثورة ضد الطاغية القذافي ليقود الثورة فلفظه الشعب لمعرفته بعمالته وبتاريخه الأسود مع الطاغية وهو لا يختلف عنه. فدعمته أمريكا بواسطة عميلها السيسي حاكم مصر، فقام بمحاولة انقلاب عام 2014 ففشل، وسيطر على مناطق بشرق ليبيا حتى سيطر على بنغازي ومن ثم على جنوب ليبيا. استقبله عميل أمريكا سلمان ملك آل سعود يوم 27/3/2019 استقبال الرؤساء في قصره معلنا الدعم له، وعقب ذلك بدأ حفتر يوم 4/4/2019 بشن هجومه على العاصمة طرابلس، فأمنت أمريكا له الدعم بواسطة عملائها الإقليميين للقيام بهذا الهجوم مستغلة الوضع في الجزائر التي كانت تقف في وجه تقدمه نحو طرابلس وغرب ليبيا، وسهلت له السيطرة على مطار طرابلس بواسطة مليشيات سلفية توالي السعودية كانت تسيطر على المطار، ومن ثم أمنت له دعم روسيا.
وفي اليوم التالي للهجوم وصل جوتيريش سكرتير الأمم المتحدة مع مبعوثه الخاص لليبيا غسان سلامة إلى ليبيا للاجتماع مع حفتر لدعمه بذريعة إجراء مصالحة، لتعزيز الدعم الأمريكي لهجومه لإسقاط حكومة السراج الموالية لأوروبا أو لإجبارها على إشراكه في الحكم وتسليمه قيادة الجيش، وبالتالي يسقط اتفاق الصخيرات الذي صاغته بريطانيا ووضعت فيه بنودا تحول دون تبوُّء حفتر هذه المناصب. وأعلنت أمريكا دعمها مباشرة، فأذاع البيت الأبيض يوم 19/4/2019 بيانا يقول "الرئيس ترامب تحدث هاتفيا هذا الأسبوع مع حفتر قائد قوات شرق ليبيا والتي تشن هجوما على العاصمة طرابلس، واعترف بدور حفتر الجوهري في مكافحة (الإرهاب) وتأمين موارد ليبيا النفطية. وناقش الاثنان رؤية مشتركة لانتقال ليبيا إلى نظام سياسي مستقر وديمقراطي".
وثاني نقطة يجب إدراكها عند النظر إلى الأحداث، أن الوسط السياسي في ليبيا أغلبه يوالي بريطانيا، فعندما رأت بريطانيا اندلاع الثورة ضد عميلها القذافي عام 2011، وخافت على زوال نفوذها أغرت فرنسا للتدخل المباشر معها لإسقاط القذافي ولتمكن عملائها الآخرين من استلام الحكم، وهذا ما حدث. وقد اعترف الرئيس الأمريكي السابق أوباما يوم 11/4/2016 أنه "ارتكب أسوأ خطأ عندما تابع فرنسا وبريطانيا بالتدخل". وتمكنت بريطانيا من عقد اتفاق الصخيرات يوم 17/12/2015، وبه حالت دون حفتر وتوليه قيادة الجيش وجعلتها لرئيس حكومة الوفاق. وعلى الفور شكلت بريطانيا حكومة ليبية برئاسة السراج في تونس وحملتها إلى طرابلس، ودعمتها بأوروبا وبعملائها في الجزائر وتونس وقطر. وقد اضطرت أمريكا للموافقة على اتفاق الصخيرات وعلى الحكومة حتى لا تظهر أنها المعرقل للحل السياسي في ليبيا، فينفضح أمرها وخططها.
ونقطة ثالثة يجب إدراكها وهي أن برلمان ليبيا الذي انتقل من طرابلس إلى طبرق وإن كان حفتر يهيمن عليه بفعل هيمنته العسكرية هناك، ولكنه مشكّل من سياسيين غالبيتهم من الموالين لبريطانيا، إذ دعمتهم بعميلتها الإمارات التي اندست على حفتر. وما يؤكد ذلك إعلان الإمارات يوم 30/4/2020 رفضها لإعلان حفتر بقولها "ندعو للحل السياسي في ليبيا عبر مسار مؤتمر برلين".
مُني حفتر في الأسابيع الأخيرة بهزائم في مدن عدة حول طرابلس وأُبعد عنها، فانكسرت معنويات أتباعه. استغل أتباع الإنجليز في البرلمان ذلك، فقام رئيس البرلمان عقيلة صالح يوم 23/4/2020 باقتراح مبادرة جديدة للحل السياسي قائلا: "الحوار السياسي فشل وإن مجلسي النواب والدولة لم ولن يتوصلا إلى حل الأزمة الليبية بسبب تعارض المصالح.. وإن عددا منهم يريدون استمرار الفوضى لأنهم يعرفون أنه إذا ما استقرت البلاد وتوحدت مؤسساتها سيتوقف ما يجنونه من ثمار الفوضى واستمرار الصراع" معرّضا بحفتر. واقترح "أن يتولى كل إقليم من أقاليم ليبيا الثلاثة على حدة اختيار من يمثلهم بالمجلس الرئاسي المكون من رئيس ونائبين.. وأن يقوم المجلس الرئاسي بعد اعتماده بتسمية رئيس للوزراء ونواب يمثلون الأقاليم الثلاثة لتشكيل حكومة يتم عرضها على مجلس النواب لنيل الثقة. ويكون رئيس الوزراء ونائباه شركاء في اعتماد قرارات مجلس الوزراء"، وبذلك يسقط حفتر. وذكر صالح عقيلة أن "مثل هذا الحل وجد في الخمسينات"، أي أنه يعيد استنساخ مشروع بريطانيا عندما احتلت ليبيا.
وبعد اقتراح عقيلة صالح بأقل من ساعة أعلن حفتر رفضه للمبادرة لأنها تسقطه ودعا "الشعب لإسقاط الاتفاق السياسي وتفويض المؤسسة التي يرونها مناسبة لقيادة البلاد"، وأخرج بعض أنصاره في بنغازي وبعض المدن التي يسيطر عليها ليطالبوا بتفويضه لإدارة البلاد. فجاءت خطوته يوم 27/4/2020 مدعيا كذبا أن الشعب يفوضه في مسرحية مكشوفة، والحقيقة أن الشعب بأغلبيته يرفضه، وهو يسقط البرلمان الذي عينه سابقا قائدا للجيش، وكانت خطوة من بريطانيا لاحتوائه أو تقييده إذا ما سيطر على حكم ليبيا، وبذلك يسقط نفسه ويفقد مشروعيته من حيث لا يدري! فكيف يدّعي أن الشعب فوضه لإدارة البلاد؟!
وجاء الرفض لإعلان حفتر والتأكيد على اتفاقية الصخيرات من بريطانيا والاتحاد الأوروبي ومن دوله الفاعلة هناك فرنسا وإيطاليا وألمانيا التي تمكنت من عقد مؤتمر برلين يوم 19/4/2020 لدعم حكومة السراج وإجبار حفتر على وقف إطلاق النار والحوار السياسي لتطبيق الاتفاقية. ولرفع العتب أعلنت أمريكا على لسان سفارتها في ليبيا على الفيسبوك يوم 29/4/2020 بيانا باهتاً ذكرت فيه أنها "تأسف لاقتراح المشير حفتر التغييرات في الهيكل السياسي وفرضها من خلال إعلان أحادي". فلم تندد بإعلانه، بل بيانها يدل ضمنيا على عدم رفضها لإعلانه.
إن مشكلة ليبيا تكمن في الصراع الدولي الأمريكي الأوروبي وفي العملاء الإقليميين والمحليين. وقد عبر عن ذلك عقيلة صالح قائلا: "إن قضية ليبيا مرتبطة بشكل كبير بالمجتمع الدولي، وإن الأزمة الليبية في يد المجتمع الدولي". ويقصد أمريكا وأوروبا لأنهم هم الذين يتدخلون، والعملاء هو وحفتر منهم، هم أدوات يبحثون عن مصالحهم الذاتية ولذلك يبيعون بلادهم ويضعونها في يد المستعمرين.
والحل يبدأ بإيجاد رأي عام يرفض تدخل تلك القوى ويقبّح كل من يقبل بحلولها ويسير معها ويدمغه بالخيانة، وإيجاد رأي عام لحكم الإسلام متجسدا بالخلافة الراشدة على منهاج النبوة.
رأيك في الموضوع