شدد ممثل تجمع المهنيين السودانيين، د. محمد يوسف المصطفى، على أهمية حسم قضايا الأخطاء التاريخية وعلاقة الدين بالدولة، وقال إن "الدين موروث أساسي للسودانيين، لذلك لا نقول فصل الدين عن الدولة أو العلمانية، إنما تحرير الدين من الدولة منعاً لاستغلاله وحتى يؤدي دوره في المجتمع، وأكد ممثل التجمع الذي يقود الاحتجاجات في مؤتمر صحفي للمعارضة أمس، على أن تبني الحرية والتغيير، والالتزام به هو الشرط الوحيد للانضمام"، بحسب صحيفة السوداني.
في البداية نتساءل، ما الفرق بين العلمانية، وفصل الدين عن الدولة؟ أليست العلمانية في الأخير هي عملية الفصل بين الدين والدولة؟ علاوة على أن تحرير الدين من الدولة، كمفهوم، لا يمكن تطبيقه في حالة بحث نظام الحكم بوصفنا مسلمين، ملزمين بتطبيق نظام الحكم في الإسلام لأنه جزء جوهري من الإسلام، فهو دين كلّه لله، ويعني الخضوع التام والشامل لله في كل شيء، في العبادات والحكم والسياسة، وفي سائر المعاملات، ويؤكّد ذلك قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً﴾، أي ادخلوا في كافة تشريعات الإسلام. والمعلوم أن مفهوم تحرير الدين من الدولة، أو بالأحرى فصل الدين عن الدولة، ظهر هذا المفهوم في الغرب، ولا يوجد تعريفان ولا مفهومان له، بل هو عندهم، وعند كل ذي عينين مفهوم واحد، كما بينه أصحابه واصطلحوا عليه، وهو فصل الدين عن الدولة، فالمشكلة عند الأوروبيين، كانت في كنيسة تبيع صكوك الغفران وتحتكر الدين، على خلاف الإسلام الذي لا يوجد فيه نظام كهنوتي يحتكر الدين، فلا يصح أن نستنسخ من مفهومهم ونأخذها أو نأخذ جزءاً منها ثم نطالب بها كعلاج لمشاكلنا، فمفهومهم أنها تجعل السيادة والتشريع كله للبشر، بينما السيادة والتشريع في الإسلام كله للشرع، وقد بينت أحكام الإسلام كيفية انتخاب الحاكم بالأكثرية وبالرضا والاختيار، ومحاسبته، ورعاية شؤون الناس، مسلمين وغير مسلمين، بالحق والعدل قبل أربعة عشر قرنا، فهل نترك ما في ديننا ونقلد الغرب؟!
ولعل الخطأ الشنيع الذي وقع فيه ممثل المهنيين أنّه قاس الدين الإسلامي على الدين النصراني، فخرج بهذه المغالطة الفادحة (تحرير الدين من الدولة منعا لاستغلاله)، وللتوضيح أكثر فإن ما يطرحه ممثل المهنيين يعود بنا إلى القرون الوسطى، عندما تحكمت النصرانية في الحياة السياسية، والنصرانية لا يوجد بها نظام سياسي ولا نظام حكم، لذلك تسلّط رجال الكنيسة على الحكم، وتجبّروا على الناس، وقادوهم وفقاً لمصالحهم، ومصالح طبقة الملوك والإقطاعيين المتحالفة معهم، فوجد بذلك عندهم الحكم (الثيوقراطي)، وهو حكم رجال الدين، ووجدت الدولة الدينية التي تخدم طبقة رجال الدين والمتحالفين معهم.
لكن هذا الذي حصل عندهم لا ينطبق علينا، فالإسلام هو عقيدة وشريعة ونظام حياة، بينما النصرانية عقيدة بلا نظام وبلا شريعة، ولا يوجد في الإسلام رجال دين، فكل مسلم بإمكانه أنْ يجتهد ويكون فقيهاً إذا استوفى معارف الشرع واللغة، والمجتهدون في الإسلام ليسوا مشرعين، فلا يأتون بتشريعات من عندهم، كما هو حال رجال الدين في النصرانية، والدولة عندنا ليست دولة دينية بالمعنى (الثيوقراطي)، بل هي دولة بشرية تُحكم بشرع الله، وبهذا الرد البسيط والواضح نقول إنه لا يوجد في الإسلام تحرير للدين من الدولة! فالدين الإسلامي هو من ينظم الدولة الإسلامية، وينص على وجود الدولة كياناً تنفيذيا لأحكامه، بخلاف أي دين آخر لا مفهوم للدولة فيه.
صحيح أن التوظيف للإسلام وعرضه كشعارات ثم ادعاء التدرج في التطبيق، وفقه المرحلة، على يد الأنظمة الحاكمة والحركات المتأسلمة التي حكمت السودان لمدة 30 عاماً، قد ألحق أضراراً بالغة بالدولة والمجتمع معاً، ولكن هذا لا يجيز محاكمة الإسلام بأنه لا يصلح للتطبيق بل هو فشل أيديولوجية هذه الحركات إن كانت لها أيديولوجية.
إن هذا الطرح لفصل الدين عن الدولة بهذه الكيفية المبطنة من ممثل المهنيين، يدل على أن هذه القيادات التي تبنت الاحتجاجات يعلمون حساسية المسلمين من العلمانية، فزينوها وجملوها، لخداع الناس على أنها (تحرير الدين من الدولة منعاً لاستغلاله وحتى يؤدي دوره في المجتمع)، ونسأل المتحدث باسم المهنيين كيف يؤدي الدين دوره في المجتمع، والدولة تبعد الدين عن الحياة بتشريعاتها المتحررة من الدين كما تطالبون؟! بل لن يؤدي الدين أي دور في المجتمع، خلافا لو أن الدولة المنادى بها هي دولة تشرع للناس أحكاما من الإسلام، تقودهم لرضا الله سبحانه فيصبح لذلك رأي عام ذو هيبة حتى على الأفراد، فكل مسلم (ولو لَم يكن من حكام الدولة أو موظفيها) يتحمل مسؤولية المحافظة على التزام سائر الناس في الدولة بالأحكام الشرعية، وهذه المسؤولية هي فرض من الله، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَراً فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ» (رواه مسلم). ولذلك فإن هيبة الرأي العام الإسلامي تردع كثيراً من المخالفات.
فأساس الدولة إن لم يكن التشريع فيها لرب البشر، وهذا محصور بالدين الإسلامى، فسيكون التشريع للبشر، فالأساس الذي قامت عليه أول دولة "مدنية" ديمقراطية علمانية كان فصل الدين عن الدولة، وذلك لما كان يمارسه الحكام في أوروبا على الناس من ظلم واضطهاد باسم الكنيسة والدين، فقرروا أنه لا بد من فصل الدين عن الحياة وأن الشعب هو الذي يضع نظامه وقوانينه بنفسه، وهو الذي يشرع بالأغلبية لنفسه، فصار الشعب هو صاحب السيادة في التشريع. وهذا مخالف وحرام في الإسلام ويرفضه أهل السودان، لأن التشريع في الإسلام هو لله وحده.
يجب التمييز بين موقف الدين الإسلامي من الدولة ومن السياسة، وبين موقف الأديان الأخرى، وبالذات الديانة النصرانية، فالإسلام نظام شامل يتعلق بالحكم كما يتعلق بالعبادات، فهو لا يُفرّق بين العلاقات سواء أكانت فردية أو عامة، أم كانت تتعلق بالفرد أو بالدولة والمجتمع، فكل أفعال الناس في الدين الإسلامي يجب أنْ تكون منضبطة بأحكام الشرع الإسلامي، فلا فرق بين العبادات والمعاملات، ولا بين الأحوال الشخصية والأحوال الدولية، فالإسلام يُعالج كل ما يصدر عن البشر من أفعال، سواء أكانت تتعلق بالحكم أو الاقتصاد أو السياسة أو العبادات أو التعليم أو البينات أو العقوبات أو أي شيء آخر قد يتطلب نظاماً يُعالجه، فالإسلام نظام شامل لكل شيء ولكل زمان ولكل مكان، ونصوصه التشريعية جاءت شاملة عامة قابلة لأنْ تُستنبط منها أحكام شرعية لمعالجة كل حادثة، وكل فعل، وكل مشكلة، لذلك عُرّف الفقه في الإسلام بأنّه استنباط الأحكام العملية من النصوص التشريعية، فالإسلام دين سياسي عملي، والتشريع فيه نوع من سنّ القوانين المستمدة من نصوص القرآن والسنة، والأدلة على ذلك كثيرة منها: قوله تعالى: ﴿فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً﴾، فتحكيم الشرع في الإسلام يجب أن يكون في كل شيء، وبدون حرج، وبكل تسليم، وإلا يُنْفى عن المسلمين الذين لا يُحكّمون الشرع في كل شؤون حياتهم الإيمان، وهذا من أبلغ الدلالات على وجوب تحكيم الشرع في حياة المسلمين، فالله سبحانه أعلم بما يُصلحنا من أنفسنا، قال تعالى: ﴿أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾، ولا يمكن تطبيق أحكام الشرع في كل شيء، وعلى كل الناس، من دون وجود دولة إسلامية، كما لا يمكن حكم الناس بالإسلام من دون سياسة، فالسياسة هي رعاية شؤون الناس، والدولة هي التي تسوس الناس أي ترعى شؤونهم بأحكام الإسلام، والرسول e كان رئيساً للدولة الإسلامية التي أقامها في المدينة المنورة، فكان يحكم الناس بأحكام الإسلام، فوضع منذ وصوله إلى المدينة المنورة صحيفةً شاملة تُحدّد صيغة الحكم في المدينة تحديداً سياسياً دقيقاً، فكانت بمثابة دستور سياسي شامل احتكم له الناس منذ بداية تكوّن السلطة في الإسلام، والرسول eحكم رعيته بالفعل حكماً شاملاً بالإسلام، فطبّق عليهم الحدود، وقاد الجيوش، وأعلن الحروب، وعقد الهدن، ووضع التشريعات التي عالجت كل شيء في دولته e، وفعل مثله الخلفاء فحكموا الناس وفتحوا البلدان ونشروا الهدى والإسلام في أرجاء المعمورة. ﴿لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ﴾.
رأيك في الموضوع