(مترجم)
قدمت رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي الأسبوع الماضي أخيراً مشاريع خططها الخاصة المتعلقة بخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي بعد مفاوضات مطولة مع الاتحاد الأوروبي. وقد وافق مجلس وزرائها على هذه الأمور ليلة الأربعاء ولكنها قادت في اليوم التالي إلى استقالة عدة وزراء، بينما يضغط وزراء آخرون على ماي لإعادة التفاوض مع الاتحاد الأوروبي. ويبدو أن مسودة الاتفاق لا ترضي أحدا. وعلى وجه الخصوص، وعلى النقيض تماماً من التأكيدات السابقة لتيريزا ماي، من الواضح أنها تمثل ما يُطلق عليه اسم Brexit"ناعم"، ما يُلزم بريطانيا بالكثير من قوانين الاتحاد الأوروبي والإشراف عليها في الوقت الذي يحرمها فيه من المشاركة في صنع القرار في الاتحاد الأوروبي. ووصف بوريس جونسون، العضو البارز في حملة مغادرة الاتحاد الأوروبي، الاتفاقية بأنها خفضت بريطانيا إلى مرتبة الدول التابعة للاتحاد الأوروبي.
وعلى الرغم من الملكية الدستورية من الناحية القانونية، تقدم بريطانيا نفسها على أنها ديمقراطية يتم فيها التشريع والحكم وفقا لرغبات الشعب. ومع ذلك فإن الواقع، هو أن الدولة العميقة هي التي تسيطر على البلاد من أجل مصالح النخبة التي تهيمن على الطبقة الأرستقراطية الرسمية في بريطانيا والتي يرأسها ملكها. إنها سياسة هذه المؤسسة لتكون جزءاً من الاتحاد الأوروبي، من أجل التأثير في قراراته من الداخل، مع الحفاظ في الوقت ذاته على درجة من الاستقلالية عن الاتحاد الأوروبي، من أجل ضمان صنعها لقرارها السيادي الخاص بها. وقد اقتضت هذه السياسة المزدوجة أن تعزز الدولة العميقة السياسيين المؤيدين للاتحاد الأوروبي والسياسيين المناهضين للاتحاد الأوروبي، مع الحفاظ على توازن دقيق بين الاثنين. لم يكن الغرض الحقيقي من استفتاء "خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي" هو السعي للحصول على رأي الجماهير ولكن من أجل هندسة التصويت لصالح استمرار عضوية الاتحاد الأوروبي حتى يتسنى للسياسيين المناهضين للاتحاد الأوروبي التنازل بشكل معقول عن الوضع الراهن. ولسوء الحظ، فقد أخطأت الحكومة البريطانية بشكل سيئ وفاسد في الاستفتاء التالي الذي استقال بعده رئيس الوزراء ديفيد كاميرون.
فيما ذهلت المؤسسة البريطانية، بعد هذه الكارثة، صبّت اهتمامها الكامل على قضية خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، ما جعله مصدر قلقها الأول ودعاها إلى توظيف كافة مهاراتها ومكرها لتجاوز هذه الأزمة. لم يكن التأخير الكبير في المفاوضات بسبب عدم كفاءة أي حكومة بريطانية ولكن لأن المؤسسة كانت بحاجة إلى استغلال الوقت لخلق المناخ السياسي الضروري للضغط على حلها المنشود، وهو استمرار مشاركة بريطانيا في الاتحاد الأوروبي بأي طريقة ممكنة، بشكل رسمي أو غير رسمي. في ظل خطة رئيسة الوزراء ماي المرهقة في خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، ستكون بريطانيا مستعدة لمواصلة مشاركتها العميقة في الاتحاد الأوروبي حتى على حساب المشاركة الرسمية في صنع القرار في الاتحاد الأوروبي.
هذه الأحداث التي تحدث أمام أعيننا يجب أن تكون درساً لنا لكي نفهم أن الديمقراطية ما هي إلا نظريات خيالية لا يمكنها ولن تستطيع أن توجد عملياً في أي مكان في العالم. حتى في اليونان القديمة، اقتصرت الديمقراطية على مستوى دولة المدينة حيث لم يكن يملك المواطنة إلا أقلية صغيرة من السكان هي من كان مسموحاً لها بالمشاركة. علاوة على ذلك، فإن الديمقراطية تتناقض مع طبيعة الإنسان، الذي هو كائن مخلوق ويجب أن يعيش وفقاً لقانون خالقه.
إن إصرار بريطانيا على الحفاظ على هوية مستقلة قوية في الاتحاد الأوروبي يجعل عملها في الموازنة بين موقفها المناهض والمعادي للاتحاد الأوروبي أكثر تحديا، لكن كل بلد في الاتحاد الأوروبي يواجه هذه المعضلة إلى حد ما. هذا لأن مفهوم الاتحاد الأوروبي غير صحيح من أساسه، لمحاولة اتحاد الدول التي يجب أن تعمل معاً فيما تحتفظ في الوقت نفسه بسيادتها الوطنية المنفردة.
والطريقة الصحيحة الوحيدة لتوحيد البلاد المختلفة هي أن تحل هوياتها الفردية وتندمج في كيان جماعي واحد. هذه هي الطريقة التي وفرها الإسلام لوحدة الأمة الإسلامية، أي تشكيل دولة واحدة تشمل جميع البلاد الإسلامية تحت قيادة عامة واحدة لجميع المسلمين. وبإذن الله، سيشهد العالم مرة أخرى هذه الوحدة الحقيقية مع إقامة دولة الخلافة الراشدة على منهاج النبي e والتي ستنقذ الإنسان من تبعيته لبشر مثله وترفعه ليكون خاضعا لسيده الحق، الله سبحانه وتعالى.
بقلم: الأستاذ فائق نجاح
رأيك في الموضوع